الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الفساد .. الحقيقة والأكذوبة!
كتب

الفساد .. الحقيقة والأكذوبة!




 


 كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 10 - 04 - 2010



- الحديث عن الفساد أكبر من الفساد وليس معقولاً أن البلد كله لصوص وحرامية


- الاتهامات المرسلة جريمة فى حق مصر والبراءة المتأخرة لا ترد اعتباراً لمظلوم


- شحن الفقراء بأكاذيب الفساد يجعلهم وقوداً للفوضى والحرق والتخريب


- أزمات الخبز والسولار والبوتاجاز بفعل فاعل.. وهذه هى الأدلة


- النصيحة التى نقدمها للحكومة هى: أن تتكلم أكثر مما تعمل


- لماذا لا تكون عقوبة سارق قوت الشعب هى الأشغال الشاقة المؤبدة؟


- لا تجوز المقارنة بين إعلام شمولى يُجمّل الفساد وإعلام متوحش يخترع الفساد


- معيار الشفافية الدولى يظلم مصر لأنه يتم بطريقة «من دقنه وافتلّه»


- الفاسدون الشرفاء أصبحوا ظاهرة ويتحدثون وكأنهم آخر الرجال المحترمين


الحديث عن الفساد فى مصر أكبر بكثير من الفساد، ومن يقرأ الصحف الخاصة ويتابع الفضائيات، سيتولد لديه انطباع بأن مصر كلها تعوم فوق بحيرة فساد، البلد كله فساد فى فساد.. الدولة والحكومة والوزراء والسياسيون ورجال الأعمال والصحفيون والقضاة والفنانون وغيرهم، وربما لن يفلت أحد مستقبلا من اتهامات طائشة بالفساد.


المشكلة أن بعض الصحف القومية والكاريكاتير، بدأت هى الأخرى تساير موجة الحديث عن الفساد.. وبدأ يتولد لدى الناس انطباع بأنه فساد حقيقى وليس مجرد حكايات مرسلة واتهامات لايدعمها دليل ولا سند، فأصبح الشعور بالفساد أكثر خطورة من الفساد نفسه.
1- يا عزيزى.. كلنا لصوص
ليس معقولاً أن البلد كله حرامية ولصوص وفاسدون، وتعميم الاتهامات بالشكل الذى نراه اليوم هو بمثابة جريمة ترتكب فى حق البلد فى الداخل والخارج، حتى وصل الأمر إلى إقناع الناس بأننا نأكل طعاماً فاسداً ونتنفس هواءً فاسداً ونتناول أدوية فاسدة، وأننا ننام فى أحضان الفساد، ونستيقظ على صباح الرشوة.
من المستفيد من ترويج هذا الفكر الفاسد؟ وما هى المكاسب التى تتحقق من الوصول بالناس إلى كراهية بلدهم؟ وهل يجب أن نرفع شعار محاربة الفساد والفاسدين؟.. أم إطلاق النيران على الجميع دون تمييز؟ وهل المتهم برىء حتى تثبت إدانته؟ أم أن البرىء متهم حتى تلفق إدانته؟
فى كثير من قضايا الفساد، ينصب الإعلام المشانق للمتهمين، ويصدر أحكاما معنوية بإعدامهم، ويدمر أسرهم ويخرب بيوتهم، وبعد ذلك تثبت براءتهم، بينما رءوسهم معلقة فوق أعواد المشانق، فلا تعيده البراءة إلى الحياة، ولا تسترد سمعته، ولا ترفع رأسه بين أهله ومواطنيه. أتذكر أن متهماً شهيراً فى قضية فساد، أشار بإصبعه من خلف القضبان صارخاً «قتلنى هؤلاء».. وكان يقصد الصحفيين والإعلاميين الذين التفوا حول القفص، وكأنه وليمة دسمة للأقلام الجائعة والكاميرات المتعطشة.
2 - «الفساد بالإلحاح» أقوى من «الفساد الواقعى»
الإلحاح معناه «الدوى على الودان الذى له مفعول السحر»، فإذا أردت أن تذبح منافساً اطعنه بسكين الفساد، وإذا أردت أن تحطم مجتمعاً اجعله يعيش أجواء الفساد، وهذا ما يحدث فى مصر الآن، حيث تُجرى أكبر عملية شحن للناس بأنهم ضحايا الفساد وأن رجل الأعمال الذى يمتلك مشروعاً أسسه بالفساد، والموظف الذى يركب سيارة امتلكها بالرشوة، والوزير الذى يتخذ قرارات حازمة تحركه مصالحه الخاصة، وغيرها من الاتهامات الطائشة التى أصبحت العناوين المعتادة فى الصحافة ووسائل الإعلام.
أصبحت قطاعات عريضة من الرأى العام تؤمن بأنه فساد حقيقى وليس من صنع عقول محترفة، تهيئ الأجواء لمزيد من الغضب والاحتقان والتمرد والعصيان، لأن الفقير الذى يجرى إقناعه بأن الفاسدين هم الذين يختطفون لقمة العيش من فمه، غير الفقير الذى يطالب بحقه فى حياة كريمة، توفرها له الدولة المسئولة عن رعايته وحمايته.
الفقير المخدوع بأكاذيب الفساد هو وقود الفوضى إذا اشتعلت لا قدر الله، هو الذى يحرق السيارات الخاصة وينهب المحلات العامة ويحطم المدارس وأتوبيسات النقل العام ويقتلع الأشجار، ويدمر أى شىء فى طريقه، لأنه تم حقنه بمصل الحقد والغل والكراهية، ويريد أن ينتقم من كل من يعتقد أنهم سر شقائه وفقره.. وهكذا يكون مفعول «الفساد بالإلحاح».
3 - الفاسد الصغير أخطر من الكبير
لم يشعر المواطنون العاديون بعمليات الفساد الكبرى تنعكس على حياتهم ولم يتأثروا بها، مثلما هرب بعض رجال الأعمال بأموال البنوك أو الاختلاسات التى حدثت فى بعض المشروعات العامة أو سرقة ملايين الجنيهات، التأثير الوحيد هو الشحن المعنوى الذى يستهدف إظهار البلد فى صورة مشوهة تعدم الثقة وتهز الاقتصاد الوطنى على المدى المتوسط والبعيد. الفاسد الصغير هو الأشد خطورة وتأثيراً على حياة الناس، فعندما يطلب موظف رشوة، أو يغش مقاول فى مواد البناء، أو يتناول مريض دواءً فاسداً أو يصاب مواطن بالتسمم بسبب غذاء منتهى الصلاحية، فهذا يؤثر فى جموع الناس بشكل مباشر، ويزيد مساحة الغضب والاحتقان وتكون نتائجه ملموسة ومحسوسة ومدمرة.. وهى اللعبة الخبيثة التى يجب أن تنتبه لها الدولة والحكومة.
4- أزمات حقيقية أم تآمرية؟
بعد أزمة مياه الشرب، جاءت أزمة الخبز، ثم الأسماك واللحوم الفاسدة، والبنزين والبوتاجاز والسولار.. والله سبحانه وتعالى هو وحده من يعلم ما هى أجندة الأزمات التى يجرى تجهيزها وتفجيرها فى وجه الناس، للقضاء على رصيد الثقة المتبقى لديهم، والوصول بهم إلى حافة الثورة والتمرد.. وفى هذا الصدد تولدت لدى القناعات التالية:
أولاً: إن كل الأزمات المشار إليها لم تكن عفوية، ولكن بفعل فاعل، ولم تكن لنقص الإمكانيات، ولكن لمؤامرات لوبى الفساد الخفى، والدليل على ذلك أن الحكومة حين تدخلت، تمكنت من السيطرة على الموقف فى وقت قصير، ولو كانت أزمات حقيقية لاستغرق حلها سنوات طويلة.
ثانياً: إنه آن الأوان للضرب بيد من حديد على أيدى العابثين والفاسدين والمتاجرين بقوت الشعب، حتى لو وصل الأمر إلى تشديد العقوبة الجنائية إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.
ثالثاً: أن تكون الدولة هى صاحبة الذراع الطويلة فى ضرب أوكار الفساد الخفى، حتى لا تظهر فى الصورة المعكوسة، وكأن الحكومة هى التى تتستر على الفساد، أو أن لها مصلحة فى استمرار الفاسدين.
رابعاً: عدم التهويل أو التهوين من قضايا الفساد ووضعها فى حجمها الحقيقى، وترسيخ سلطة أجهزة الدولة فى كشفها وضبطها ومكافحتها، وليس بإشاعة أجواء التشكيك والإثارة.
5- الإحساس بالفساد «من دقنه وافتلّه»
صدق أو لا تصدق بأن المؤسسات الدولية تعتمد معيار «إدراك الفساد» لترتيب الدول فى قائمة الشفافية، بمعنى أن الترتيب يعتمد بالدرجة الأولى على «إحساس الناس» بالفساد، حتى لو كان ذلك أقل بكثير من الفساد الحقيقى، وبمعنى آخر أن الدول تتقدم أو تتأخر فى القائمة تبعاً لإحساس شعوبهم بالفساد، حتى لو كان هذا الفساد أساسه الشائعات والاتهامات الكاذبة.. وهذا المعيار الدولى يظلم مصر كثيراً، لأن حجم اللغط المتداول حول الفساد فى الصحافة ووسائل الإعلام أضعاف أضعاف الفساد الحقيقى.
ومعناه - أيضا - أن جهود التشكيك فى شفافية الأوضاع فى مصر التى تتبناها بعض الجهات فى الداخل لا تضيع هباءً، فهم يطلقون الشائعات هنا، وتتلقفها الجهات الدولية وتُقّيم على أساسها مصر، ثم تصدرها فى تقاريرها الدورية، وتتلقفها الجهات المحلية التى أطلقتها وتروج لها وكأنها شهادة دولية على الفساد فى مصر، يعنى «من دقنه وافتلّه» حسب المثل الشعبى الدارج.
6 - جرس إنذار شديد للحكومة
النصيحة التى أقدمها للحكومة فى هذا المجال هى أن تتكلم أكثر مما تعمل، لأنها تسخر إمكانيات الدولة - مثلا - لحل مشكلة مياه الشرب، ويتم إجهاض جهودها بمظاهرة مخططة فيها بعض الأشخاص يحملون الجراكن، ويعتبرون هذا دليلاً دامغاً على فشل الحكومة فى توفير احتياجات الناس، ونفس السيناريو يتكرر فى كل الأزمات السابقة واللاحقة.
هذا جرس إنذار للحكومة أن تنتبه لما يحدث حولها، وأن تعلم أن سلاح الإعلام هو الأهم والأخطر، وأن الناس يصدقون ما يسمعون ويقرأون ويشاهدون أكثر من ثقتهم فى الحكومة، لتراكم ميراث عدم الثقة من الحكومات التى كانت تتكلم ولا تعمل.
الحكومات الذكية ليست التى تستخدم الكمبيوتر والإنترنت والبطاقات الممغنطة، ولكن التى لها قرون استشعار تكتشف بها الخطر قبل وقوعه، وتكون لديها القدرة على الحركة السريعة لمنع مستصغر الشرر من أن يصبح حريقاً، ولو أعطيت للحكومة تقديرا فى هذا الصدد، فلن يزيد عن «مقبول» فى التسويق، وأكثر من ذلك بكثير فى العمل والإنجاز.. إنها ليست حكومة الإنجازات التى تلبس «طاقية الإخفاء»، وإذا أرادت أن تتجمل فلديها الكثير والكثير الذى يمكن أن تتحدث عنه وتتباهى به، ولكن «منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه»؟
7 - محاسن الديمقراطية ومساوئ الديكتاتورية
من محاسن الديمقراطية أنها لا تُخفى شيئاً، وتستبدل انفجار الغضب بالتنفيس السلمى عن الغضب، لهذا يكثر الحديث عن الفساد كلما تمتعت المجتمعات بقدر كبير من الديمقراطية، وهذا هو الذى يحدث فى مصر الآن.. ديمقراطية غير مسبوقة رغم إنكار الجاحدين.
من مساوئ الديكتاتورية أنها تخفى عيوبها خلف جدران حديدية، فلا يجرؤ أحد على الحديث عن الفساد، حتى لو كان يزكم الأنوف، ويملأ المعدة والأفواه.. وهذه مرحلة عاشتها مصر فى فترات سابقة، ويحلو للبعض أن يترحموا عليها وعلى أيامها، رغم أن من عاصروها هم الذين يعرفون الفرق بين نار الشفافية وجنة التعتيم.
لكل مرحلة ظروفها التاريخية، ولا يجب مقارنة عصر بعصر ولا زعيم بزعيم، ولاينبغى تضليل الناس بشعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ولا بين وسائل إعلام كانت تخفى الفساد أو تُجّمل صورته، وبين إعلام شرس إذا لم يجد فساداً.. اخترعه.
الديكتاتورية تواجه الشطط بالنار والحديد وقطع الألسنة وفرض الرقابة وعد الأنفاس، والديمقراطية تعالج أخطاءها بمزيد من الديمقراطية، لأن أخطاء اللسان أفضل ألف مرة من قطع الرقاب.. وتلك مرحلة عشناها، ولن تعود أبداً، ولن ترتد الحرية إلى الوراء.
8 - الفاسدون هم الأكثر حديثاً عن الشرف
تلك آفة أخرى ابتليت بها مصر فى السنوات الأخيرة، والفاسدون يتحدثون عن الشرف كأنهم آخر الرجال المحترمين، وربما يتهمون غيرهم ويرفعون فى وجوههم أصابع الاتهام، كستار دخان يخفون وراءه تصرفات وأفعالاً يجرمها القانون ومواثيق الشرف والأخلاق.
لا أريد أن أذكر أمثلة حتى لا أقع فى دائرة المحظور، خصوصاً أن الرأى العام بفطرته وذكائه ونظرته الثاقبة يستطيع أن يعرى أصحاب الشرف الرفيع الذى تراق على جوانبه عبارات الخداع والنفاق والرياء، وهى من أشد أنواع الفساد..
الذى يمخر كالسوس فى العظم. الفاسدون الشرفاء هم أخطر من الفاسدين الحقيقيين، مثل تاجر المخدرات الذى يصلى الفروض الخمسة جماعة فى المسجد ويتعطف على الفقراء والمحتاجين ويرعى الأيتام والأرامل، ومثل التاجر الجشع الذى يوزع كرتونة رمضان فى الشهر الكريم، ومثل «الجماعة» التى تعتبر المصريين مجرد رعايا فى دولة الخلافة المنتظرة، فهذا هو الفساد فى أسوأ صوره، لأنه يستخدم أسلحة فاسدة لضرب دولة مستقرة وشعب آمن.
9 - المحصلة النهائية: «حاجة تُغم»
لأن خلطة العسل بالسم تقتل من يتناولها، وإذا كانت فى مصر حالات فساد كغيرها من الدول، فلا يجب أبداً «تمصير الفساد»، وكأن مصر هى الدولة الوحيدة الفاسدة فى العالم، أو أن الفساد ينتشر فى جسدها كالسرطان الذى لا شفاء منه.
الحقيقة الأولى: هى أن أجهزة الدولة هى التى تكشف الفساد وتقدم الفاسدين للمحاكمة العادلة، لأننا فى دولة يحكمها القانون ولسنا فى قبيلة تضع المتهم بالمقلوب فوق حمار ويسيرون به لتجريسه واغتياله معنوياً، حتى لو أثبتت الأيام بعد ذلك أنه كان بريئاً ومظلوماً.
الحقيقة الثانية: هى أن الدولة لا تتستر على فاسد أو منحرف، بل إن السلطة تتحول إلى «نقمة» و«لعنة» لمن يسىء استخدامها، فيتمنى من قلبه لو لم يُبتل بها.
الحقيقة الثالثة: هى جملة رائعة قالها الرئيس فى بداية حكمه «ليس للكفن جيوب» ويُشهد له أنه كاره للفساد كراهية التحريم، ولا يتدخل من قريب أو بعيد فى شئون القضاء.
لا يجب أن نصنع من الفساد «عفريتاً» نحضره ولا نعرف كيف نصرفه، بل أن نقطع رقبة الفاسد بسيف القانون، ونصرف العفاريت حتى لا تفسد الحياة.


كرم جبر