قال الفيلسوف
عبد الله كمال
قبل أن يدهمنا التليفزيون.. ويصبح سماعنا للإذاعة لماما في زحام المرور.. حيث ينافسها الآن في السيارات إرسال التليفزيون وأجهزة عرض الأفلام المتنقلة.. كنت أقضي مع الإذاعة ما لا يقل عن ست ساعات يوميًا.. صباحًا منذ يبدأ قرآن السادسة.. مرورًا بمنوعات البرنامج العام والشرق الأوسط حتي الثامنة إلي أن اختتم متابعاتي بـ(كلمتين وبس) لفؤاد المهندس.. ومساء ما بين السيرة الهلالية علي صوت العرب ودراما الشرق الأوسط وعودة إلي سهرة البرنامج العام.. ما بين العاشرة والثانية صباحا.
وكنت أستمتع جدًا ببرنامج (قال الفيلسوف).. الذي تقدمه حتي اليوم الفنانة الكبيرة سميرة عبدالعزيز وصوت الرائع سعد الغزاوي.. وهو عمل عريق من إحدي أهم علامات الإذاعة المصرية.. والدقائق الخمس التي يتضمنها كانت تحوي معلومات مفيدة وتنشيطًا ذهنيا ومعرفيا هائلاً ومكثفًا.. يمتزج بصوت سميرة الموحي ورصانة عبارات سعد المذهلة.. وإيقاع البرنامج الذي يخرجه إسلام فارس.
وكنت أنتشي بالعبارة الكلاسيكية التي يبدأ بها البرنامج: (كان لي صديق فيلسوف.. بأقوال الحكماء شغوف.. سألته يومًا).. ثم تمضي الحلقة في طريقها. ويرد الفيلسوف بعبارات تبدأ عادة بكلمة: (يابنيتي).. وتشمل دراما الحوار الصراع بين بعض من (دلع) وربما (غنج) السائلة للفيلسوف الذي يفترض فيه أنه رجل كبير السن.. سرعان ما يتبرم من جدلها واستفساراتها.. فيختتم الحلقة بعبارة: (بُنيتي.. هذا قول شرحه يطول.. وأنا الليلة مشغول!).. فتحبط السائلة.. علي وعد باللقاء.. وتقول له: (إلي الغد إذن يا فيلسوف!). ويأتيك صوت نغمات الجيتار معلنة ختام البرنامج المبهر.
ومن الطبيعي أن (قال الفيلسوف) كان يشمل أفكارًا للمجادلة استنادًا إلي طبيعة الفلسفة.. وكما نعرف فإن الفلسفة كلمة جاءت من الكلمة الإغريقية القديمة (فيلصوفيا) أي (محبة ـ الحكمة).. وللفلسفة أعمدة من العقول عبر الحضارات والتاريخ.. بدءًا من أرسطو وأفلاطون وصولاً إلي المراحل التالية التي بلغت: الوجودية والإنسانية والحداثة وما بعد الحداثة والعدمية.
وتعني الفلسفة بإعمال التفكير في معاني الكون والخالق والوجود وإجابات الأسئلة التي تطارد البشرية منذ خلقت أو نشأت ـ حسب المذهب الفلسفي الذي تتبعه ـ وكان للفلاسفة المسلمين إسهاماتهم المتنوعة فيها التي لم تزل حاضرة.. وأساس ذلك العلم هو المنطق والتبرير وإعمال العقل.. وقد كان البرنامج الإذاعي الشهير عظيمًا في قدرته علي أن يتضمن الرؤي المختلفة والمجادلات المتنوعة والمدارس المتعددة.. ببساطة وسلاسة تجعل الفلسفة أمرًا محببًا حتي من مستمعين ليس لديهم قدر من الثقافة التي يتطلبها جدل متعب من هذا النوع.
غير أني، وكنت عائدًا من عمل ممتد في مكتبي إلي الثانية صباحًا، صادفت البرنامج في راديو سيارتي قبل أيام، حيث هالني ما سمعت.. لقد تحول إلي برنامج ديني.. يليق به أن يذاع في محطة القرآن الكريم.. وليس في البرنامج العام.. وأن يتغير اسمه إلي (قال الشيخ) وليس الفيلسوف!!
كان موضوع الحلقة، الذي لا اعتراض لي عليه من ناحية المضمون، هو (اسم اللَّه ـ الشهيد).. وقد مضي (سعد الغزاوي) في أن يرد علي أسئلة (سميرة) حول عدد مرات ورود الكلمة (الشهيد) في القرآن.. ودلالاتها.. ووجدت النص يقرر الحقائق الإيمانية.. أكثر من كونه كما اعتدناه يطرح الأسئلة.. حتي إن هذا المنهج في التفكير قد جعل الفنانة السائلة تقول للفيلسوف في كل مرة: نعم.. نعم.. كما لو أنها صدي صوت له.. وليست في موضع المجادلة لما يقول.. ففقد البرنامج أهم مقوماته.
ليس في الفلسفة كلمة (نعم).. وهي تقوم علي علامات الاستفهام التي تقود إلي غيرها، ولا توجد إجابة أخيرة، ونهائية، أو شافية، وحين كان البرنامج يؤمن بمعني وضرورة الفلسفة فإننا كنا ننتظره في اليوم التالي، أما هذه الطريقة فهي تصلح لبرامج، ليس لها مثل هدفه الذي كان.
أعيدوه لنا.. ولأجيال بعدنا.. وليكن كما كان ساحة للجدل وإعمالاً للعقل.. وليس للتلقين الديني الذي يمكن أن يقوم به غيره.. كيف يمكن أن يحصر نفسه في أمور عقيدية لا تقبل النقاش.. ومن ثم تطرح سؤالاً جوهريًا إذا كان سوف يقوم علي إجابات عقيدة فلماذا يتجاهل عقيدة أخري؟! وهذا ليس أصلاً دوره.. أليس في مثل تلك الأعمال الإعلامية ما يقودنا إلي الوصول للأمور التي تؤدي إلي تراجع مكونات ثقافة الدولة المدنية في تفكير العقلية العامة والشخصية المصرية؟
الموقع الإليكتروني : www.abkamal.net
البريد الإليكتروني : [email protected]