الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قال الفيلسوف




قبل أن‮ ‬يدهمنا التليفزيون‮.. ‬ويصبح سماعنا للإذاعة لماما في زحام المرور‮.. ‬حيث‮ ‬ينافسها الآن في السيارات إرسال التليفزيون وأجهزة عرض الأفلام المتنقلة‮.. ‬كنت أقضي مع الإذاعة ما لا‮ ‬يقل عن ست ساعات‮ ‬يوميًا‮.. ‬صباحًا منذ‮ ‬يبدأ قرآن السادسة‮.. ‬مرورًا بمنوعات البرنامج العام والشرق الأوسط حتي الثامنة إلي أن اختتم متابعاتي بـ(كلمتين وبس‮) ‬لفؤاد المهندس‮.. ‬ومساء ما بين السيرة الهلالية علي صوت العرب ودراما الشرق الأوسط وعودة إلي سهرة البرنامج العام‮.. ‬ما بين العاشرة والثانية صباحا‮.‬

وكنت أستمتع جدًا ببرنامج‮ (‬قال الفيلسوف‮).. ‬الذي تقدمه حتي اليوم الفنانة الكبيرة سميرة عبدالعزيز وصوت الرائع سعد الغزاوي‮.. ‬وهو عمل عريق من إحدي أهم علامات الإذاعة المصرية‮.. ‬والدقائق الخمس التي‮ ‬يتضمنها كانت تحوي معلومات مفيدة وتنشيطًا ذهنيا ومعرفيا هائلاً‮ ‬ومكثفًا‮.. ‬يمتزج بصوت سميرة الموحي ورصانة عبارات سعد المذهلة‮.. ‬وإيقاع البرنامج الذي‮ ‬يخرجه إسلام فارس‮.‬

وكنت أنتشي بالعبارة الكلاسيكية التي‮ ‬يبدأ بها البرنامج‮: (‬كان لي صديق فيلسوف‮.. ‬بأقوال الحكماء شغوف‮.. ‬سألته‮ ‬يومًا‮).. ‬ثم تمضي الحلقة في طريقها‮. ‬ويرد الفيلسوف بعبارات تبدأ عادة بكلمة‮: (‬يابنيتي‮).. ‬وتشمل دراما الحوار الصراع بين بعض من‮ (‬دلع‮) ‬وربما‮ (‬غنج‮) ‬السائلة للفيلسوف الذي‮ ‬يفترض فيه أنه رجل كبير السن‮.. ‬سرعان ما‮ ‬يتبرم من جدلها واستفساراتها‮.. ‬فيختتم الحلقة بعبارة‮: (‬بُنيتي‮.. ‬هذا قول شرحه‮ ‬يطول‮.. ‬وأنا الليلة مشغول‮!).. ‬فتحبط السائلة‮.. ‬علي وعد باللقاء‮.. ‬وتقول له‮: (‬إلي الغد إذن‮ ‬يا فيلسوف‮!). ‬ويأتيك صوت نغمات الجيتار معلنة ختام البرنامج المبهر‮.‬

ومن الطبيعي أن‮ (‬قال الفيلسوف‮) ‬كان‮ ‬يشمل أفكارًا للمجادلة استنادًا إلي طبيعة الفلسفة‮.. ‬وكما نعرف فإن الفلسفة كلمة جاءت من الكلمة الإغريقية القديمة‮ (‬فيلصوفيا‮) ‬أي‮ (‬محبة ـ الحكمة‮).. ‬وللفلسفة أعمدة من العقول عبر الحضارات والتاريخ‮.. ‬بدءًا من أرسطو وأفلاطون وصولاً‮ ‬إلي المراحل التالية التي بلغت‮: ‬الوجودية والإنسانية والحداثة وما بعد الحداثة والعدمية‮.‬

وتعني الفلسفة بإعمال التفكير في معاني الكون والخالق والوجود وإجابات الأسئلة التي تطارد البشرية منذ خلقت أو نشأت ـ حسب المذهب الفلسفي الذي تتبعه ـ وكان للفلاسفة المسلمين إسهاماتهم المتنوعة فيها التي لم تزل حاضرة‮.. ‬وأساس ذلك العلم هو المنطق والتبرير وإعمال العقل‮.. ‬وقد كان البرنامج الإذاعي الشهير عظيمًا في قدرته علي أن‮ ‬يتضمن الرؤي المختلفة والمجادلات المتنوعة والمدارس المتعددة‮.. ‬ببساطة وسلاسة تجعل الفلسفة أمرًا محببًا حتي من مستمعين ليس لديهم قدر من الثقافة التي‮ ‬يتطلبها جدل متعب من هذا النوع‮.‬

غير أني،‮ ‬وكنت عائدًا من عمل ممتد في مكتبي إلي الثانية صباحًا،‮ ‬صادفت البرنامج في راديو سيارتي قبل أيام،‮ ‬حيث هالني ما سمعت‮.. ‬لقد تحول إلي برنامج ديني‮.. ‬يليق به أن‮ ‬يذاع في محطة القرآن الكريم‮.. ‬وليس في البرنامج العام‮.. ‬وأن‮ ‬يتغير اسمه إلي‮ (‬قال الشيخ‮) ‬وليس الفيلسوف‮!!‬

كان موضوع الحلقة،‮ ‬الذي لا اعتراض لي عليه من ناحية المضمون،‮ ‬هو‮ (‬اسم اللَّه ـ الشهيد‮).. ‬وقد مضي‮ (‬سعد الغزاوي‮) ‬في أن‮ ‬يرد علي أسئلة‮ (‬سميرة‮) ‬حول عدد مرات ورود الكلمة‮ (‬الشهيد‮) ‬في القرآن‮.. ‬ودلالاتها‮.. ‬ووجدت النص‮ ‬يقرر الحقائق الإيمانية‮.. ‬أكثر من كونه كما اعتدناه‮ ‬يطرح الأسئلة‮.. ‬حتي إن هذا المنهج في التفكير قد جعل الفنانة السائلة تقول للفيلسوف في كل مرة‮: ‬نعم‮.. ‬نعم‮.. ‬كما لو أنها صدي صوت له‮.. ‬وليست في موضع المجادلة لما‮ ‬يقول‮.. ‬ففقد البرنامج أهم مقوماته‮.‬

ليس في الفلسفة كلمة‮ (‬نعم‮).. ‬وهي تقوم علي علامات الاستفهام التي تقود إلي‮ ‬غيرها،‮ ‬ولا توجد إجابة أخيرة،‮ ‬ونهائية،‮ ‬أو شافية،‮ ‬وحين كان البرنامج‮ ‬يؤمن بمعني وضرورة الفلسفة فإننا كنا ننتظره في اليوم التالي،‮ ‬أما هذه الطريقة فهي تصلح لبرامج،‮ ‬ليس لها مثل هدفه الذي كان‮.‬

أعيدوه لنا‮.. ‬ولأجيال بعدنا‮.. ‬وليكن كما كان ساحة للجدل وإعمالاً‮ ‬للعقل‮.. ‬وليس للتلقين الديني الذي‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقوم به‮ ‬غيره‮.. ‬كيف‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحصر نفسه في أمور عقيدية لا تقبل النقاش‮.. ‬ومن ثم تطرح سؤالاً‮ ‬جوهريًا إذا كان سوف‮ ‬يقوم علي إجابات عقيدة فلماذا‮ ‬يتجاهل عقيدة أخري؟‮! ‬وهذا ليس أصلاً‮ ‬دوره‮.. ‬أليس في مثل تلك الأعمال الإعلامية ما‮ ‬يقودنا إلي الوصول للأمور التي تؤدي إلي تراجع مكونات ثقافة الدولة المدنية في تفكير العقلية العامة والشخصية المصرية؟


الموقع الإليكتروني : www.abkamal.net
البريد الإليكتروني  :  [email protected]