أحمد سراج: النقد لم يستوعب الإبداع الثورى حتى الآن
رانيا هلال
فى الوقت الذى تنوعت وتعددت الإصدارت الأدبية التى تناولت الثورة من زوايا مختلفة، قلت تلك الأعمال التى وقفت تتأمل وتحلل الثورة من زوايا عدة، لعلها تصل إلى توصيف أقرب لما حدث وما سيحدث، ومن ضمن تلك الأعمال التى حاولت استيضاح الموقف الثورى بمهل، لاستنباط بعض العبر منه كان ديوان «الحكم للميدان» للشاعر المسرحى أحمد سراج، الذى تميز بلغة شاعرية تنبض بالثورية، مستعينا فى كثير من قصائده بالتاريخ، مقدما قصيدة تزخر بالتفاصيل المشهدية المجسدة للحالة العامة للديوان، وهى السمة التى يمكن من خلالها الربط بين أعمال شاعرنا، وتمثل خطه الأساسى، حيث يستحضر الشخصيات التاريخية والأسطورية والشعبية فى مساءلة إنسانية عن القيمة من وراء ما يجرى... فى السطور التالية حوار مع الشاعر أحمد سراج حول الثورة والكتابة عنها والاستقبال النقدى لهذه الكتابات وغيرها من القضايا الأدبية.
▪ هل ترى أن الأعمال الأدبية المتناولة للثورة كانت على مستوى الحدث أم أننا نحتاج إلى ثورة شعرية موازية؟
- فى رأيى أن النقد لم يستطع استيعاب الحدث الإبداعى الثورى حتى الآن فحكم بعد القدرة أو قلتها، وعلينا فى هذا السياق أن نقسم أدب الثورة إلى ثلاثة أقسام؛ الأول التبشير بالثورة والدعوة لها والوقوف ضد الطغيان ويمثل هذا أمل دنقل ومظفر وأحمد فؤاد نجم وبالنسبة لى تمثل مسرحيات زمن الحصار والقرار التى صدرت 2009 وكانت تقاوم موضوع التوريث من خلال خطها الدرامى ومسرحية القلعة والعصفور هذا القسم.
القسم الثانى من أدب الثورة هو ما كتب مواكبًا لها ومنه الإبداعات التى نجدها بشكل كبير، وسمة هذه الأعمال علو صوت الجماعة والوضوح والميل إلى ربط ما قبل الثورة بها ووصف ووحدة الصف، والتركيز على احداث الثورة وتضحياتها، ووصف كيفية سقوط مبارك ورجاله، وإلى هذا القسم ينتمى ديوانى الحكم للميدان ومسرحية فصول السنة المصرية وقد حاولت فيهما أن يظل الدم طازجًا لذلك تجدين أن الإهداء فى العملين واحد.
القسم الثالث هو قسم المراجعة والأسئلة الكبرى، أين نحن؟ وماذا فعلنا؟ هل انتصرنا أم انكسرنا؟ أين الخطأ وأين الصواب؟ وإلى هذا القسم ينتمى ديوانى غرب الحب الميت الذى يقوم على استدعاء أبطال التاريخ بكل أنواعه المكتوب والشفوي، الأسطور والحقيقي، الرسمى والشعبي، فتجدين الخفاجى عامر والزير سالم وأوديسوس وانكيدو وجلجامش، إنه ديوان الخيبات الكبرى.
▪ هناك وقفة طويلة فى الديوان أمام التاريخ.. إلى أى مدى يحتاج الإنسان -والمبدع بالأخص- إلى هذه الوقفة عندما يتأمل مشهدا كالمشهد الثورى الحالي؟
- التاريخ مرآة من مرايانا، علينا أن نقرأه بعناية لكى لا نكرر أخطاء من سبقونا، وأن نستثمر الإيجابيات لأقصى درجة، لديك مثلا تطورالمشروع الإسلامى فى عهد صدر الإسلام، ماذا لو استثمرنا التحول من حكم موحى إليه إلى حكم صديق ومعاون للموحى إليه إلى رجلٍ قادر يجمع قوة الدين والدنيا إلى اختيار واحد من ستة من الفضلاء، ماذا لو استطعنا أن نستثمر هذا التطور؟ ثم تخيلى بحار الدم التى انفجرت حين شاء البعض أن يجعل الملك وراثة، أما يمكن لمن يقرأ ويفهم ألا يكرر مآسى المنتصر ومذابحه، وخسائر المهزوم وذبائحه.
▪ فى الديوان هناك اهتمام باللغة وجمالياتها.. هل يمكن اعتبارها محاولة للبحث عن الهوية وسط فوضى الهويات المتصارعة الآن؟
- عامة اللغة وعاء الهوية، أتاتورك أطلق رجاله ليجمعوا الرعاة من الجبال ليعلموا الناس التركية القحة، الكيان الصهيونى أحيا لغة كانت ميتة ومهجورة، أما نحن فلغتنا ليست وعاء فحسب وإنما هى من مكونات الهوية المتسربة فى كل المكونات.
اللغة ليست حاملة للمعنى فحسب وإنما هى المعنى والدلالة فى أحيانٍ كثيرة. لا تشبه اللغة المرآة فى النص الأدبى وإنما عليها أن تكون المرئى ذاته، وتأتى العناية بقدرات اللغة من أجل هذا، إن اللغة خادم بدرجة سيد –إن جاز التعبير- لذلك فالعناية بها هى عناية بما كتب النص لأجله.
نأتى إلى النقطة التى أثرتها وهى المواجهة مع الهويات المتصارعة، مصر عربية بكل مكونات العروبة، ولم يثر الثوار ضد هويتهم، بل ثاروا من أجل حقوقهم الضائعة والمشوهة، ومن هذه الحقوق هويتهم.
▪ هل تعتبر قصيدة «يناير العظيم» محاولة للمقارنة بين رؤساء مصر؟
- يناير العظيم قصيدة توجه ثلاثة خطابات لثلاثة رؤساء تعرض كلٌّ منهم لثورة ضده، كان لناصر أخطاء لكنها جاءت من تضافر قوى خارجية كبرى له؛ لذلك كانت المظاهرات لدفعه لإعادة المسلوب، أما السادات فقد واجه ثورة كادت تحيط به لولا ما جرى، أما مبارك فإنه كان يتجه إلى ما لا إصلاح له، لقد خرج القطار عن قضبانه ولم يكن هناك أمل فىإعادته.
▪ فى الديوان قصيدة بعنوان «عودى إلى الميدان».. هل لا يزال النداء قائما.. وهل هناك حاجة كى نعود إلى الميدان؟
- النداء موجود وبقوة، وسيظل موجودَا ما كان هناك مصرى حر، لكن كما قال حكيم: لا تكرر خطة انتصارك؛ لذلك فكل ما علينا أن يكون الميدان موجودًا فى مقاومتنا بتمثلات مختلفة.
نحن بحاجة إلى إلى العودة إلى الميدان لتطهير هذا البلد من كل الجراثيم التى احتلت مكان الورم المباركي، نحن بحاجة إلى تطهير ديننا ودولتنا من هذه الأقذار.
▪ «الحق فيه كالحقيقة».. ما الرسالة التى تحاول إيصالها عن طريق تلك الجملة؟
- أحيانًا تكون الحقيقة ليست حقًّا فمبارك كان يحكم تلك حقيقة، لكنها ليست حقًّا، والعكس صحيح بامتياز، أما فى الميدان فكان الحق والحقيقة واحد، والأروع أن الحقيقة كانت أكثر مما اعتبرناه حقًّا... من كان يتخيل وحدتنا وصمودنا وطهارتنا؟
▪ فى قصيدة الميدان تحرير قلت: «ويدى عامرتان من كنز الحقيقة» .. هل تعتبر تلك العبارة نجمة هادئة وسط كل هذا التخبط.. وهل هذا ما ينقص لصوص الثورة الذين أسميتهم «فرسان الساحة الخالية»؟
- هذا هو الفرق بين الثائر والسارق، كل من عرضوا أنفسهم للموت ومنهم من استشهد فعلا، كانوا غير طامعين، كانوا أصحاب حق يبحثون عنه، أما لصوص الثورة فكانوا ينظرون إلى مكاسبهم الناتجة عن استشهاد الثوار، إنهم يراهنون على المصرى باعتباره حصان سبق.
▪ يحمل الديوان شحنة كبيرة من الأمل.. فإلى أى مدى يؤمن أحمد سراج بالأمل بعد ما نراه من شتات وتشرذم على كل المستويات؟
- أين تكمن الهزيمة؟ فى التخلى عن المبدأ، فى اليأس القاتل، لكن ماذا يجرى الآن؟ إنها الحرب، قد تثقل القلب، نخسر جولات... هذا طبيعي، ما من معركة دون ضحايا، أثرياء الحروب ونكساتها من أساسيات الحروب، لقد أزحنا طاغوتًا وسنزيح هذا المسخ ومن وراءه.
رددت كثيرًا ما قاله الطاهر وطار: الوصول إلى مرحلة شرط تجاوزها. كان لا بد من أن يحكم هؤلاء لينكشف الوهم ولتسقط الأقنعة، أقول لك سيسقطون كما سقط الفاطميون لكن دون أن يتركوا القاهرة والأزهر، وسيختفون فجأة كما اختفى الحشاشون من على قلعة الموت، لكن دون إبداع حسن الصباح.
يقول مقاتل فيتنامي: عندما نعد ضحايانا تبدأ الهزيمة. وأنا أقول: نحن ضحايا ما لم نكمل معركتنا.
إذا بحثت فى أسباب بناء الأيوبى القلاع والحصون، فسنجد أن هذا تكتيك تعلمه من أعدائه وأخذ به بعد أن انهزم ولم يجد حصنًا يأوى إليه، لدينا أخطاء أهمها أننا تركنا الميدان وقد اعتبرنا أن إعلان تنحى مبارك هو الحل، دون أن نعى للسؤال الأهم: وماذا بعد.
فى فيلم قراصنة الكاريبى كان القراصنة يتلاعبون بالقانون -وهو قانون قراصنة- وهذا ما يجرى معنا الآن فباكستان عاونتنا فى حرب أكتوبر، والأمن المركزى صاحب الفضل فى ثورة يناير؛ لكننا صامدون من أجلوطن يكون الحق فيه كالحقيقة.
▪ هل أدت الثورة إلى «تغريبة» الأشخاص والأماكن عن وطنهم الحقيقي؟
- ما قبل الثورة كان تغريبة كاملة؛ وهذه التغريبة كانت للعرب جميعًا الذين يستمدون قوتهم منا نحن المصريين، الآن يعيش مصريون كثيرون فى هذه التغريبة، لكنها ليست من الثورة، وإنما ممن لم يشتركوا فيها، ثم احتلوا دولة ما بعد مبارك، دون تغيير يذكر، الأزمة هنا أن من هؤلاء من قدموا أبناءهم وأموالهم وربما دماءهم.
▪ هل تركت أعمالك المسرحية السابقة ظلالها على التجربة الشعرية الحالية من حيث الاعتماد على المشهدية واللغة التصويرية العالية؟
- الآثار متبادلة فالنص الشعرى يتسرب له الحوار والدراما والمشهدية، والمسرح يعتنى بالمجاز والتخيل والحذف واللغة الشعرية فى ثناياه، واللغة فى كليهما تحمل من هذا وذاك، دعينى أؤكد على أنه لا بد من تداخل الأجناس الأدبية سواء جاء هذا بوعى أو دون، المهم هوالنص.
▪ كيف ترى مستقبل الثقافة والأدب فى الفترة القادمة؟
- الإبداع هو الإنسان، الله خلق لنا عقلاً لنبتكر ولنبدع لا لنتبع دون عقل، الشاعر هو صوت الجمال وصورته، هو رأس الحربة، هذه الأيام على ما فيها هى مجلى الأدب الحقيقي، هى الفتنة التى تميز الخبيث من الطيب، نحن الباقون بتمسكنا بمبادئنا.
▪ ماذا عن تجربتك الشعرية التالية؟
- ديوانى القادم هو غرب الحب الميت، وهو فى مراحله النهائية، إنه ديوان الأسئلة والمراجعات والمواجهات، ما الذى جرى؟ لماذا جرى؟