الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

العم محمود السعدنى .. صادق الصعاليك وحارب بسخريته الملوك




فى الذكرى الثانية لرحيل ملك السخرية ابن «روزاليوسف».. ما أشبه اليوم بالبارحة
 
تحل اليوم الذكرى السنوية الثانية للولد الشقى العم محمود السعدنى أبرز كتاب الصحافة المصرية الساخرين حيث غادر الحياة الدنيا إلى الدار الآخرة فى «4» مايو 2010 عن عمر يناهز الـ«83» عاما تاركا لقرائه فى مصر والعالم العربى زخيرة فكرية ونقدا سياسيا لاذعا لأوضاع المواطن العربى فى شكل ساخر يصلح لواقعنا المعاش ما بقيت الأزمات والتناقضات والمشكلات التى تناولها فى حياته دون إصلاح فها هى مصر بعد ثورة 25 يناير تواجه نفس المرض، تلون كثير من الكتاب، وسرقة الثورة من قبل عدد من مدعى النضال.
 
العم محمود السعدنى كما كان يناديه الصحفيون، من علامات الصحافة المصرية ومن أعمدة الكتاب الساخرين، الذين تصعلكوا فى الحياة وعرفوا دروبها، تجول فى شوارع الدول العربية، وعرف حكامها عن قرب، كان يسخر بتسميتهم «عمد» فالعالم العربى فى ملته واعتقاده دولة واحدة قسمتها الحدود السياسية والحواجز الجغرافية، وكل عمدة يحكم جزءا منها، ففى طرابلس عمدة ليبيا، وفى بغداد عمدة العراق، وفى سوريا عمدة دمشق، بينما فى سابق الزمان لم يكن هناك حدود تقيد تحركات أبناء الوطن العربى الواحد، فيقول الولد الشقى « زمان فى بلادنا خرج رجل بسيط فقير مندهش على الدوام اسمه ابن بطوطة، خرج من طنجة بلاد الله لخلق الله، وذهب إلى تلمسان، ومن تلمسان الى الجزائر، ومن الجزائر على صفاقس ومنها على طرابلس الى سيوه الى الاسكندرية ومن الاسكندرية إلى القاهرة ومن القاهرة إلى غزة ومنها للقدس ثم إلى دمشق الشام إلى بغداد ومن بغداد إلى الحجاز ومن الحجاز إلى البحرين ومن البحرين إلى مسقط الى صنعاء ومن صنعاء إلى عدن ومنها الى الصومال ثم عاد حيث جاء ولم يستوقفه أحد، ولم يفتشه احد ولم يسأله احد ابراز الهوية أو الجواز ونزل فى كل مكان اهلا وسهلا.. ولقد تم هذا من ألف عام.. ترى ايتها الست الغندورة ماذا يحدث الأن لو جاء ابن بطوطة واراد ان يلف بلاد العرب وان يزور ابناء الأمة والعمومة الأعزاء؟ واذا حدثت معجزة ونجا بجلده من طنجة، فسيقضى بقية العمر فى سجون صفاقس، فإذا نجا من صفاقس فسيموت حتما فى تخشيبة الاسكندرية فاذا نجا من ذلك فسيقضى نحبه قبل ان يحصل على تأشيرة دخول للخليج، فاذا حصل عليها قبل الموت، فلابد له اذا اراد ان يتاجر او يكتب او يؤلف كتابا، ان يبحث لنفسه عن كفيل!
 
أنجب الولد الشقى من الكتب 34 كتاباً كان بكرها « الجزائر أرض اللهب والنار» مشاركة مع الكاتب اللامع الأستاذ الراحل محمد عودة، حيث تسللا إلى الجزائر وعايشا ثورة المليون شهيد لتحرير الأرض من الاحتلال الفرنسى، وتعرفا على قيادات المقاومة التى اعتلت السلطة بعد ذلك فى مقدمتهم الرئيس الراحل هوارى بومدين الذى ساند مصر فى حرب اكتوبر 1973 عرفانا بالجميل لدعم مصر فى عهد عبدالناصر لحركات التحرر، وكان صديقاً للرئيس الجزائرى الحالى عبدالعزيز بوتفليقة احد أبرز رجال المقاومة فى شبابه.
 
لم تكن صداقة العم محمود مقصورة على قيادات الجزائر، بل ربطته صداقة بالرئيس الراحل معمر القذافى، والرئيس الراحل صدام حسين، ففى الخمسينيات ساند السعدنى ثورة يوليو 1952 والضباط الأحرار وأيد سياسة الرئيس جمال عبدالناصر، وعقب رحيله، عارض السادات بالسخرية اللاذعة، التى جعلته ضمن قائمة الماثلين أمام محكمة الثورة فى قضية مراكز القوى التى حوكم فيها عدد من رموز النظام الناصرى بتهمة الترتيب لانقلاب على السلطة، وكانت تهمة السعدنى إطلاق نكات ساخرة عن السادات وزوجته جيهان، وحكم عليه بالسجن عامين، وكما يروى السعدنى فإن العقيد القذافى تدخل لدى السادات للافراج عنه غير أن السادات رفض وقال «لقد اطلق النكات على أهل بيتى ولازم يتربى لكن لن نفرط فى عقابه».
 
وخرج السعدنى بعد انقضاء المدة، ففصله السادات من مجلة صباح الخير الصادرة عن مؤسسة روزاليوسف والتى كان يرأس تحريرها بالمشاركة مع الأستاذ الكبير لويس جريس، وأمر السادات بألا ينشر اسم السعدنى فى أى صحيفة مصرية حتى فى صفحة الوفيات فلم يجد بداً من النفى الاختيارى، وسافر إلى لبنان ثم بريطانيا ومنها للامارات ثم الكويت والعراق، وواجه صعوبات فى الحصول على فرصة عمل فى الصحافة العربية حيث خشى كل منها من غضب الرئيس الراحل أنور السادات، وكتب السعدنى بصعوبة فى جريدة السفير بأجر صحفى مبتدئ، وقبل اندلاع الحرب الأهلية فى لبنان غادر السعدنى للقاء القذافى فى ليبيا بناءً على طلب العقيد الذى عرض عليه تمويل صحيفة له يصدرها فى لبنان إلا أن السعدنى رفض خشية إغضاب مالكى الصحف البنانية، وعرض عليه القذافى الكتابة فى صحيفة ليبيا «الفجر الجديد» فما كان من السعدنى إلا أن غلبت عليه طبيعته الساخرة فنعتها دون قصد بـ «الفقر الجديد» فانتهت المقابلة إلى لا اتفاق، وسرعان ما غضب العقيد على السعدنى لكتاباته اللاذعة حيث تمكن فى لندن من اصدار جريدة 23 يوليو وهى أول صحيفة عربية تصدر فى لندن متبنية لافكار الثورة والخط القومى العربي، ونجحت نجاحا كبيرا وكانت تدخل عددا من الاقطار العربية فى مقدمتها مصر عن طريق التهريب لمنع تداولها.
 
واللافت أن السعدنى فوجئ بوضعه على قوائم الاغتيالات التى يستهدفها القذافى ونظامه لمعارضته له،ففى عام 1988 أعلن الدبلوماسى الليبى سالم السعيطى استقالته من البعثة الليبية لدى الأمم المتحدة، وعقد مؤتمرا صحفيا اعلن من خلاله عضويته فى الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا، التى انضم إليها منذ ان كان يعمل مسئولا فى الخارجية الليبية، وكان أحد القلائل من كبار المسئولين فى الخارجية الذين لهم الحق فى الاطلاع على الوثائق السرية للخارجية.
 
وكان من المعلومات التى افشاها الدبلوماسى الليبى فى مؤتمر صحفى محاولات اغتيال اعلاميين عرب توانسة إلى جانب محمود السعدنى والكاتب الكويتى أحمد الجار الله، فقرأ السعدنى ما أذيع فى المؤتمر وكتب مقالا ساخرا لاذعا من القذافى حمل عنوان «يمه العقيد على الباب» سخر فيه من القذافى وسياسته ونظامه.
 
فى عام 1976 ضاقت بالسعدنى سبل العيش بسبب آرائه السياسية فوصل إلى أبوظبى للعمل كمسئول عن المسرح المدرسى فى وزارة التربية والتعليم فى الإمارات ولم ترق له الفكرة، لذا قبل بالعرض الذى تقدم به عبيد المزروعى وهو إدارة جريدة الفجر الإماراتية وسرعان ما ترك الصحيفة بعد ان صودر عدد منها بسبب منشيتاته القوية، وكانت إيران أكثر الدول الرافضة لسياسته حيث حملت الجريدة شعار «جريدة الفجر جريدة العرب فى الخليج العربى» بينما كانت ولا زالت إيران تسعى لترسيخ فكرة أنه الخليج الفارسي، وتحتل ثلاثا من الجزر الإماراتية بل كانت حينها ترى أن الأمارات جزء من الأراضى الإيرانية.
 
السعدنى ملك السخرية السياسية، أثرت نشأته فى فكرة ومحصلة خبراته بشكل قد لا يتوافر لصحفى سواه، فقد امتلك الموهبة، ونشأ وسط البسطاء والفقراء فى محافظة الجيزة، وكان مقهى عم إبراهيم نافع مقراً له يلتقى فيه كبار الكتاب والفنانيين والصحفيين، فى الستينيات والسبعينيات، قبل ان يسجن ويرحل عن مصر، فقد عاش حياة الصعلكة وصادق الملوك، وطاف أرجاء الوطن العربى واطلع على ثقافات أوروبا، وأسس نادى الصحفيين فى شارع البحر الأعظم بعد أن استقر فى مصر، وجعل منه ملتقى فكريا وأدبيا، غير أن النادى فقد بريقه باستسلام مؤسسه للمرض ثم الرحيل.
 
من مفارقات الزمن أن السعدنى من مواليد 20/11/ 1927 وهو نفس اليوم والشهر الذى ولد فيه جده لأمه الشيخ خليل معوض بقرية ترعة سق مركز الباجور منوفية، وهو الجد الذى ارتبط به بشدة وتولى تربيته فى مراحل عمره المبكرة فتأثر به واشترى 9 قراريط بالقرية ليبنى بيتاً ويكون إلى جواره غير أنه باعها بعد وفاة جدة عام 1984، غير أن المفارقة لم تنته حيث شهد ذات اليوم والشهر ميلاد نجله الزميل والكاتب الصحفى البارز بمجلة صباح الخير أكرم السعدنى.
 
رزق السعدنى بـ 5 أبناء هم أكرم وهالة وأمل وهبة وحنان، وقدر له أن يألم برحيل اثنتين من بناته فى حياته، حيث رحلت هالة بعد صراع طويل مع المرض ورحلة علاج بالخارج رافقها فيها والدها حتى فارقت عالمنا، فإزداد مرضها واعتزل الكتابة عام 2006، غير أن القدر لم يمهله فلاحقه بانتزاع جزء آخر من فلذةكبده ابنته هبة التى صعدت روحها إلى الرفيق الأعلى عام 2007، فظل يقاوم المرض والحزن حتى رحل عن عالمنا فى مثل هذا اليوم 4 مايو 2010 فيما كانت آخر مؤلفاته حكايات قهوة كتكوت.. فياله من إنسان كان يسخر حتى من الآلام.
 

صلاح السعدنى فى حوار مع شقيقه
 

غلاف كتاب مصر من تانى