الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
.. إلا القضاء !
كتب

.. إلا القضاء !




 


 كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 12 - 06 - 2010


- إنها كارثة بكل المقاييس والقادم أصعب وأشد خطورة


- إذا لم يتم احتواء العواصف والأعاصير سيدفع الوطن كله ثمناً فادحاً


- الدولة حذرت وزير العدل السابق: «السياسة ستفتح علي القضاة بوابة جهنم»


- ليس معقولاً أن يكون السبيل الوحيد لضمان نزاهة الانتخابات هو هدم السلطة القضائية


- الأربعاء الحزين سيصبح يوماً أسود للعدالة وانتهاك القانون


- شباب المحامين تحولوا إلي قنابل موقوتة بسبب البطالة وضيق العيش


- هل تعلم الكنيسة المصرية أن ثورتها تخدم مخططات التطرف والمتطرفين ؟


- القضاة يدفعون ثمناً فادحاً لأخطاء ارتكبها زملاؤهم قضاة الفضائيات والمظاهرات


- احترام القانون هو الذي يعيد الهدوء للكنيسة ويخمد ثورة المحامين


هم حماة سيادة القانون والشرعية وحراس الدستور وسدنة العدالة، يلجأ إليهم المظلوم فيرفعون عنه الظلم، ويعيدون الحقوق إلي أصحابها، ولا أحد فوق القانون، ولا فرق بين حاكم ومحكوم في الخضوع لسلطانه والإذعان لأحكامه.


ليس هذا كلاماً عاطفياً ولا إنشائياً، والدول الراقية ترفع قضاتها درجات أعلي، ليس من أجل سواد عيونهم، ولكن حتي تسود الطمأنينة، ويشعر الناس بأن الدنيا ليست غابة، يأكل فيها القوي الضعيف.
قضاء مصر هو الوسام الذي نعتز به ونعلقه علي الصدور، تسبقه سمعته النظيفة علي مستوي دول وشعوب المنطقة، بل العالم كله، ولذلك فليس معقولاً ولا مقبولاً أن يتعرض هذه الأيام لعواصف وأعاصير، إذا لم يتم إجهاضها فسوف يدفع الوطن كله ثمناً فادحاً.
1 - بداية المأساة: قاضٍ علي كل صندوق
«بدعة قاضٍ فوق كل صندوق» هي سبب المأساة، والحمد لله أن التعديلات الدستورية انتبهت للخطر وعدلت المادة قبل استفحال الخطر، في تلك الأثناء.. وصلت رسالة شفوية من الدولة إلي المستشار محمود أبو الليل وزير العدل السابق محتواها أن «نزول القضاة إلي المعترك السياسي سوف يفتح عليهم بوابة جهنم» .. ولم يصدق أحد هذا التحذير الشديد، إلا بعد الانتهاكات وحوادث الضرب المشينة التي تعرض لها القضاة من بلطجية وفتوات الانتخابات.
النتائج السلبية لتوريط القضاة في المعارك الانتخابية أتت ثمارها الآن، بعد أن أصبح القضاة عملة متداولة بين الناس، يتشاجرون معهم، ويشككون في قراراتهم وأحياناً يعتدون عليهم، ومن لا تعجبه أحكام القضاء يبادر بالاعتداء علي القضاة.
تحول القاضي من حَكم إلي خصم، ومن شخصية رفيعة المستوي إلي مواطن عادي، وهنا كانت بداية الاجتراء علي هيبة القضاة ومكانتهم، واستمرأ البعض هذه اللعبة ليضرب الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع، المتمثلة في احترام السلطة القضائية والإذعان لأحكامها وعدم التشكيك في نزاهتها.
إنه ليس بكاءً علي اللبن المسكوب، ولكن يجب أن ننكأ جراح الماضي لحماية البقية الباقية من هيبة السلطة القضائية، فليس معقولاً أن يكون السبيل الوحيد لنزاهة الانتخابات هو هدم السلطة القضائية وتقويض أركانها.
2 - أخطاء نادي القضاة السابق
القضاة يدفعون الآن ثمن تلك الأخطاء.. ثمن النزول إلي الشارع والوقفات الاحتجاجية أمام ناديهم تحت الشمس الحارقة، وانضمام المأزومين والمحتقنين والمهيجين والمارة والمتسولين لتلك الوقفات التي مست هيبة ووقار القضاء والقضاة، وكانت «قناة الجزيرة» تنقلها علي الهواء مباشرة.
القضاة يدفعون ثمن خطيئة من خرج من صفوفهم ليتهم زملاءه بأنهم «قضاة التزوير» ويطالب بمحاكمتهم، بجانب بعض القضاة والقاضيات الذين استهوتهم اللعبة، فتصوروا أنهم مبعوثو العناية الديمقراطية، الذين جاءوا من المريخ لتحرير الشعب من أسر السلطة. القضاة يدفعون ثمن من خرجوا من صفوفهم ليطلقوا علي الأقلية «قضاة الاستقلال»، وكأن الأغلبية هم «قضاة احتلال»، ولأول مرة في تاريخ القضاء المصري العظيم نسمع مثل هذه التشبيهات الجارحة.
إنه ليس بكاءً علي اللبن المسكوب، لكنه اعتراف صريح بجريمة الصمت علي تجاوزات اخترقت السلطة القضائية، فأنتجت ثماراً مُرة، يذوق القضاء والقضاة والمجتمع مراراتها.
3 - فتش عن الفضائيات والصحف الخاصة
في سنوات سابقة كان ظهور القضاة في الفضائيات وأحاديثهم في الصحف الخاصة من رابع المستحيلات، ولكنه في السنوات الأخيرة أصبح مثل الحنفية، وكثيراً ما تفتح فضائية وتجد فيها قاضياً يدخل في مشاجرة علي الهواء مع ضيف آخر، ينال من قدره وهيبته، ويزيد الطين بلة عندما يستخف المذيع أو المذيعة الذين هم في عمر أولاده ويرفعون الكُلفة، ويتعاملون مع سيادة المستشار وكأنه مُتهم توجه إليه الأسئلة الساخنة والمحرجة. نعم، القضاة ليسوا فوق البشر، ولكن كل شعوب العالم تتعامل معهم بأقصي درجات الوقار والاحترام، ولكن عندنا اختلط الحابل بالنابل، وأصبح الذهاب إلي المحاكم عند بعض الصحفيين هو تدشين للبطولة والزعامة والشهرة، فيذهبون إليها في مواكب المنتصرين، ويجري تصوير القضاة الذين يصدرون أحكاماً ضد من يرتكبون جرائم القذف والسب، وكأنهم أعداء للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
إنه ليس بكاءً علي اللبن المسكوب، ولكن ليعلم قضاة الفضائيات والصحف الخاصة أي ذنب ارتكبوا في حق المهنة العظيمة، فجرأوا الناس عليهم وعلي القضاء، وهذه هي النتيجة.
4 - المحامون.. والتوتر المكبوت
لا ننكر أن بعض السادة وكلاء النيابة وأعضاء الهيئات القضائية يتعاملون مع المحامين من علياء، ولكنهم قلة ويوجد مثلهم في جميع الوظائف والمهن، ولكن مثل هذه المعاملة خلقت شعوراً مكبوتاً بالإهانة، ظل ينمو ويتضخم، حتي أصبح مثل الأنفلونزا التي تنتشر بالعدوي.
المحامي يشعر في قرارة نفسه أنه ليس أقل من وكيل النيابة الذي كان يجلس معه في المدرج أثناء الدراسة.. ومعه حق في ذلك، ولكن سبحان الله، واحد في السماء والآخر في الأرض، خصوصاً شباب المحامين الذين أصبحوا قنابل موقوتة بسبب مشاكل الحياة ونتيجة لكثرة الأعداد، وسيطرة المحامين الكبار علي السوق والزبائن، ولم يتركوا لشباب المحامين حتي الفتات.
وكلاء النيابة هم الآخرون يعيشون ظروفاً صعبة، ويكفي أن تزور أي نيابة لتجد خمسة وستة محشورين في غرفة واحدة متآكلة الجدران ومتهالكة الأثاث، ويصعب لوكيل النيابة أن يستقبل أكثر من شخص في غرفة مكتظة بخمسة غيره.. زحام في كل مكان، وأصبحث ثقافة الزحام هي سبب التوتر، ولعلها كانت المحرك الرئيسي للحدث الأخير الذي انفجر في طنطا والاتهامات المتبادلة بين وكيل النيابة والمحامي.
5 - الزواج الثاني.. حكم جاء في توقيت خاطئ
في الظروف العادية كان من الممكن أن يمر الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية العليا مرور الكرام، خصوصاً أن مشكلة الزواج الثاني للأقباط مزمنة منذ سنوات طويلة، ولكن التوقيت جاء غير مناسب لعدة أسباب:
- الشعور المتزايد لدي الأقباط بالاضطهاد وعدم الحصول علي حقوقهم، فأصبحت الكنيسة هي الملجأ سواء في الحوادث الجنائية «نجع حمادي» أو اختفاء بعض المسيحيات، وأخيراً في حكم الزواج الثاني وغيرها من الأحداث.
- إحساس الأقباط بعدم المساواة والتدخل في شئونهم الدينية، وهي خط الدفاع الأخير الذي يتمسكون به وتدافع عنهم الكنيسة.
- رغبة الأقباط في مساندة البابا شنودة والوقوف خلفه حتي المختلفين مع البابا من القساوسة في قضية الزواج الثاني، فضلوا الصمت والهروب حفاظاً علي وحدة الصف. l تسييس القضية وربطها بمجمل المطالب والحقوق القبطية، مثل بناء الكنائس والوظائف العامة وغيرها من المطالب المعروفة.
المشكلة هي أن الحكم صدر في توقيت تتزايد فيه الضغوط علي الدولة من كثير من فئات المجتمع، فأصبح من الصعب الاحتكام إلي القانون، وأصبحت المظاهرات والاعتصامات هي الطريق المضمون لتحقيق المطالب، سواء كانت قانونية أو غير قانونية، أو كان الحكم يحقق مصالح المطلقين والمطلقات المعذبين في الأرض من عدمه.
6 - تسييس القضاء والكيل بمكيالين
اللافت للنظر أن الذين يطالبون بالإشراف القضائي الكامل علي الانتخابات، هم أنفسهم الذين خرجوا في طنطا يهاجمون القضاء ويحاصرون المحكمة، ويشككون في نزاهة وعدالة الحكم، في صورة من أفدح صور الكيل بمكيالين، إذا أعجبتهم الأحكام أشادوا بها، وإذا تعارضت مع مصالحهم هاجموها، ولا يمكن أن تتحقق عدالة بهذا الشكل.
تسييس القضاء هو الذي أدي إلي هذه النتيجة، وحاول القضاة الذين صنعوا تلك المأساة أن يتبرأوا منها، بعد أن شاهدوا حشود المحامين تعلن الحرب علي جميع القضاة، ولم تفرق بين أحد، وكان تراجعهم مؤسفاً في الفضائيات ليلة الحادث، وهم يدافعون عن زملائهم القضاة الذين أهينوا..ولكن بعد إيه.
أين هم «قضاة الاستقلال» الآن، ولِمَ دخلوا خنادقهم بينما استقلال القضاء نفسه يتعرض لمخاطر جسيمة، وهل أدركوا الآن حجم الجريمة التي ارتكبوها في حق القضاء والقضاة، فأضاعوا الهيبة والاحترام والوقار؟
إنها كارثة بكل المقاييس ظلت تنمو وتكبر في ظل حالة من الاسترخاء التي جعلت السلطة القضائية تفرط فيما لا يجب التفريط فيه، وتتجاوز عن خروقات وانتهاكات يرتكبها بعض أعضائها الذين يحتمون بالحصانة، لضرب الحصانة في مقتل.
7 - القادم أصعب في موسم الانتخابات
القادم أصعب، وأول اختبار هو انتخابات مجلس الشعب التي تجهز لها قوي كثيرة المقاصل والسكاكين لتضرب نزاهتها، وتلحق العار باللجنة القضائية المشرفة عليها، حتي لو جرت الانتخابات في أجواء من الحيدة والشفافية، فقد قرروا ضربها قبل أن تبدأ.
ربما تكون المشكلة هذه المرة أخف من انتخابات 2005، ولكن ستنهمر علي المحاكم عشرات الآلاف من الطعون، التي تحتاج يقظة تامة من السلطة القضائية وأن تحققها بسرعة وحسم، وأن يكون هدفها الأول والأخير هو تكريس الثقة في السلطة القضائية وترسيخ مبادئ العدالة والنزاهة والشفافية.
القادم أصعب، لأن مواسم الانتخابات هي الفترات الهشة في حياة الدول، ويطلقون عليها مرحلة «البطة العرجاء»، ولكن في مصر نحن نحتاج إلي «حصان سريع»، حتي لا يكون الانفلات هو الشعار، والابتزاز هو الباب الملكي لتحقيق المطالب رغم أنف القضاء والقانون.
8 من أين نبدأ ؟
احترام القانون، خاصة المحامين، يجب أن يعلموا أن القانون يحدد طرق الطعن في الأحكام، وليس من بينها الحشد والتجمهر والتحريض والسب والقذف، خصوصاً أن البعض اعتبرها معركة لتصفية حسابات أخري بعيدة تماماً عن جوهر القضية، وقد راعني مشهد يوم الأربعاء الحزين حين جاءت حشود المحامين إلي طنطا من كل فج عميق، وكأنه يوم الجهاد الأكبر ضد القضاة، يوم بكت فيه العدالة دماً.
احترام القانون هو الذي يعيد الهدوء والتروي للكنيسة والبابا شنودة والأقباط، وأن ضغوطهم تضرب حلم الدولة المدنية الذي تسعي الدولة إلي تدعيم أركانه، وأن لجوءهم إلي الكنيسة سوف يستفز الآخرين إلي اللجوء إلي المسجد، وينتهي الأمر إلي حرب الكنائس والمساجد بعيداً عن سلطة الدولة المتمثلة في القضاء.
أن يؤمن القضاة أنفسهم بأن الحصانة والهيبة والهالة والاحترام ليس من أجل شخوصهم، ولكن من أجل مهنتهم المقدسة، ومن لا يشعر بأهمية هذه المعاني، فلا يصلح أن يجلس علي المنصة لحظة واحدة، لأن أشد طعنة يمكن أن تنال ظهر القضاء، تأتي من القضاة أنفسهم، ومن يفرط في كرامة مهنته، يُغري الآخرين بذلك.
إلا القضاء .. أعيدوه إلي منصته العالية الشامخة، بعيداً عن الميول والأهواء والصراعات الحزبية والسياسية والعقائدية .. فإذا لم يجد الناس قضاءً عادلاً ومحايداً ونزيهاً يذهبون إليه .. فلمن يلجأون؟


كرم جبر