الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

بنية الضعف الإنسانى فى تمارين لاصطياد فريسة




بقلم :  د. يسري عبدالله
 
 
ربما يحيل العنوان الدال لديوان الشاعر على عطا: «تمارين لاصطياد فريسة» إلى عوالم متخيلة من القنص، والمطاردة، والاصطياد، غير أنه لم يكن ثمة اصطياد بمنحاه المادي، وإنما محاولة شعرية لاصطياد المعنى الهارب، عبر عوالم استعارية تتكئ فى تشكلها على تيمات محددة المعالم، تبرز فيها «المرأة» بوصفها التيمة المركزية، والعنصر الأساس فى الديوان، بل وفى المشروع الإبداعى للشاعر ذاته، حيث بدت حاضرة وبقوة فى ديوانيه السابقين: «على سبيل التمويه»، و«ظهرها إلى الحائط»، غير أن ثمة حضور للمرأة/ التيمة، مغاير ومختلف فى تمارين لاصطياد فريسة، حيث تبدو فيه ابنة العالم الجديد - بامتياز - بآلياته، وتقنياته ما بعد الحداثية، فضلا عن أن ثمة تعاط رهيف تبديه الذات الشاعرة صوب المرأة، فتضعها فى بؤرة الوجدان الجمعى للثقافة الإنسانية، بانفتاحها المتجدد، وتنوعها الخلاق.
 
يهدى على عطا ديوانه إلى إبراهيم أصلان، وبما يحويه ذلك فى شقه الذاتى من رغبة عارمة فى اكتناز المعنى، واقتصاده اتكاء على حمولات عاطفية، وفكرية، يدركها أبناء الكثافة اللغوية والحدثية من المبدعين ممن هم على شاكلة المبدع الراحل إبراهيم أصلان، كما يهديه فى شقه الموضوعي/الدلالى إلى امرأة لا نعرفها، ولم يحددها؛ إمعانا فى التخفي، والمداراة، وإطلاقا لمدارات التأويل: «وإليكِ.. فقد تكتب لى الحياة على يديك/ وأنا على أعتاب الخمسين/ أنا الميت منذ مولدي» (انظر الإهداء).
 
يقسم الشاعر ديوانه إلى قسمين مركزيين هما: «أرنو بعينين دامعتين.. وأشدو بصوت حزين»، و « تدفقى فليس هذا أوان حبس الماء»، يتكئان فى بنيتهما اللغوية على حمولات شجويةشفيفة، تنفذ إلى جوهر الروح، وتشير – ضمن ما تشير- إلى الرغبة فى الخلاص، بعد حالٍ من الإخفاق، والتأسى على العالم. إن العنوانين الفرعيين لقسمى الديوان يصنعان حالتين شعريتين مائزتين، حيث تندرج تحتهما جملة من القصائد المشكلة للمتن الشعرى للديوان «حوالى 21 قصيدة»، إنهما – وباختصار- يعبران عن حالتين شعريتين، تتجادلان، وتتداخلان، فتشكلان سويا حالا ما بين الأسى، والرجاء، وتطلقان وعيا جديدا، يبغى عبره الشاعر الإمساك بالمدهش، وأنسنته، وصبغه بماء الشعر/ ماء الحياة.
 
عبر عنوان فرعى يعتمد على بنية الجمل المتوازية، وإيقاعها، يستهل الشاعر على عطا قسمه الأول فى الديوان: «أرنو بعينين دامعتين.. وأشدو بصوت حزين»، طارحا سبع قصائد شعرية تشكل جوهر القسم الأول من الديوان: «تشكيلة بيبى دول/ فيما المخالب مستكينة فى غمدها/ هل قالت يا حبيبي/ قبل أن تغلق الماسنجر/ فيما الحراس نائمون/ بانتظار زائر سخيف/ مشهد أخير».
 
فى قصيدته الأولى « تشكيلة بيبى دول» نصبح أمام تنويعات مختلفة يلتحم خلالها الماضى بالراهن، ويصبح التجوال فى التاريخ، والإشارة إليه:» الإسكندر الأكبر/ إيزيس/ أثينا» ارتحالا قلقا فى الزمان، وتوسعة للمدى التأويلى للنص، قفزا إلى ماض قريب، مثقل بالجراح:» هل تصدقين / أن غرفتى بالفندق/ الذى استضاف قادة العرب/ بعد مولدى بعام واحد/ واسعة بما يكفي/ لنرقص معا/ على أطلال القضية/ وأن خزانتها تزخر/ بتشكيلة «بيبى دول» / انتقيتها بنفسى من «كوكيت»؟». (ص11).
وما بين الماضيين البعيد والقريب تتشكل ملامح راهن معبأ بالهزائم الصغيرة، والإخفاقات المتتالية، ومن ثم فليس من سبيل سوى البحث الدائم عن السؤال «غاية قصيدة النثر ومرادها»:
 
«لسيت عندى إجابات/ فأنا مثلك مملوء بالأسئلة/ لكننى أسعى نحو مزيد منها/ دون أن أفكر لحظة/ فى طرحها عليك» (ص13).
 
تمجد شعرية على عطا ذلك الضعف الإنساني، وتتعاطى معه بوصفه قمينا بالمجد/ قمينا بالجدارة، إنه يشكل فى حد ذاته قوة، قادرة على أن تكشف فى الذات البشرية أنقى ما فيها، رغبتها فى المكاشفة، عريها الخاص، والذى يعد جزءا منها، من تماسها مع عالم بالغ القسوة، بالغ العتامة:» ليس أمامك سوى الاستغناء بى عن العالم/ أنا الذى لا يصلح لتحمل/ أى قدر من الألم/ ولا يستطيع حتى أن يكتب/ عن جاره الذى يعتصر أرضا ليست له/ ويرغم السائرين فى أمان الله/ على الموت رعبا» (ص14).
 وفى سعيها لتمجيد الضعف الإنسانى لا تنسى شعرية على عطا أن تكشف عن ولعها بالذات، تلك الذات المقموعة، والمتمردة فى آن: «أنا طفلك المولود للتو/ أنا الموجود من قبل/ أنا فارسك والجواد أنا/ حين تهطل سمائى فجأة/ وتسحب النوم/ إلى جب عميق/ أنا المثقل بالحب/ أنا التواق إلى التخفف/ من رتابة المواعيد». (ص15).
ثمة توظيف للوسائط الجديدة فى إبداع الشاعر، رأيناه من قبل فى قصيدتيه: «صور تحركها فأرة»، و«برغم غلق كل جهات الاتصال»، فى ديوان: «ظهرها إلى الحائط»، ونجده الآن فى تمارين لاصطياد فريسة عبر قصيدة: «قبل أن تغلق الماسنجر»، حيث تصبح التكنولوجيا الجديدة رسولا للقيا بين الذات الشاعرة، والحبيبة التى تتفلت دوما، وكأنها السراب الذى تظل رحلة الشعر/ رحلة الكتابة فى حال دائم من البحث عنه بكل مرجعياته الرومانتيكية والشعورية:
 
« ثم من يدري/ فربما والحال كذلك/ يتساوى البعد والقرب/ وقد لا تكون المسافات/ سوى مجرد وهم/ من صنع أيدينا/ حتى لو وصمتك بالعمى/ قبل أن تغلق الماسنجر». (ص27).
 
فى «مشهد أخير» يلوح إبراهيم أصلان من جديد، ويوظف الشاعر ما يسمى بـ «الزمن المرجع»، فيثبت تاريخا فى نهاية القصيدة ( يناير 2012)، وفى جمل بالغة الاقتصاد، بالغة الأسى يقول: «عند المصعد/ قال: «سلام»/ وأنسانى شرودي/ أن أودعه/ مضيت/ يسلمنى دهليز/ إلى آخر/ حتى خرجت/ من باب المستشفى/ إلى الشارع/ دون أن يخطر لي/ أننى لن أراه/ ثانية».(ص43).
 
تبدو عناوين القصائد جملا شعرية مجتزأة من النصوص ذاتها، ففى قصيدة: «فيما الحراس نائمون» مثلا، نرى العنوان متضمنا فى هذا المقطع الشعري: «يكفيك أن تعرف/ أنها تستمتع/ بتسللك ليلا إلى غرفتها/ وبخروجك/ فيما الحراس نائمون/ من دون أن تترك/ أثرا يذكر» (ص30).
 
وفى القسم الثانى: «تدفقى فليس هذا أوان حبس الماء» يصل عدد القصائد إلى أربع عشرة قصيدة، يتسم معظمها بالقصر النسبي، ليماثل هذا القسم بقصائده التى تماثل من حيث العدد ضعف قصائد القسم الأول، ما يعادل نصف الحيز الكمى للديوان، وبما يعنى أن ثمة ولع بالتقسيم المنطقى من جهة، وبآليات التشكيل الكتابى على فضاء الصفحة الشعرية من جهة ثانية.
 
فى « صيد ثمين» يوظف الشاعر آلية الجملة المدهشة، ويختتم بها استهلاله للقصيدة: «موعدنا كتاب/ قد لا يرى النور/ أما هدفى فليس أقل من صيد ثمين». (ص 47).
فى «كأن نكون معا» تنفتح إمكانات التخييل الشعرى أمام المتلقي، فيكمل الفراغات الناقصة، ويعمل عقله صوب مزيد من التأويل، فسرعان ما ينتهى هذا النص القصير جدا ليبدأ دور قارئه الذى أصبح شريكا فاعلا فى إنتاج دلالته الكلية.
 
وعبر مساحات التداخل بين الحضور، والغياب، بين الذات والعالم، بين العاشق ومن يحب، تنحو قصيدة «غياب» صوب الإنشاء المحمل بالأمانى الفائتة: « تدفقى فليس هذا أوان حبس الماء».
 
تبدو قصيدة «تكرهيننى الآن» من القصائد المركزية فى الديوان، حيث تعبر عن جوهره من جهة، وعن ملامح الذات الشاعرة فى علاقتها المضطربة بالعالم من جهة ثانية، إنها تبرز تلك المخاتلة، وذلك المكر الفني، اللذين يتلبسان القصيدة، ويكشفان عوالم خبيئة داخلها: « لكننى أقع أحيانا/ فى الشرك/ فأترك لها ضبط الإيقاع:/ أفعل مثلما تفعل/ وأقول مثلما تقول، ولا أزيد/ لأضمن – كما يقول شيخ طريقتنا - / وقتا أطول من المراوحة/ وعددا أكبر من الفرائس» (ص69).
 
غير أن قنص المعنى الهارب يستمر منذ المبتدأ وحتى النهاية، وتظل المطاردة مفتوحة، والفرائس رهن الشباك الجاهزة، والتى لا تلبث أن تنصب كل حين.
 
وبعد.. فى ديوانه « تمارين لاصطياد فريسة» يبدو الشاعر على عطا ابن أوانه، متسلحا بالنبل فى مواجهة خسة العالم، منحازا إلى الضعف الإنساني، وممجدا إياه بوصفه مهربا، وملاذا لكل المطاردين، والفارين، والهاربين من قسوة العالم، وعنفه، وقلقه، وصخبه، ووحشته.