الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

روبير الفارس يحاكم «التراث القبطى» فى «جومر»




«أشياء كثيرة دارت بذهنه، ومشاعر عديدة اختلجت بها أوصاله قبل وأثناء وبعد كتابة هذا العمل» ... لم يصرح الكاتب الصحفى روبير الفارس بهذه الكلمات، ولكنه الشعور الذى وصلنى أثناء قراءة عمله الأخير «جومر»، الذى أتحفظ على تسميته رواية ... وأفضل أن نتمهل لاختيار اسم جديد لهذه النوعية من الكتابة، التى تتجاوز الرواية والكتابة التأريخية، لتقدم مزيجا غرائبيا يأخذك فيغنيك عن البحث عن تصنيفه.

بلغة شاعرية رقيقة قصيرة الجمل، وبسيل جارف من الصور والأساطير والقصص والأمثال الفلكلورية والصلوات المسيحية التراثية ... جاء عمل روبير الفارس الذى وضع بجوار اسمه «جومر» جملة وصفية تعريفية تساعد على تلمس الطريق لقراءة الكتاب وهى:
«جريمة فى دير الراهبات ...
 
شروخ فى جدران قبطية قديمة ... لمن يريد أن يفهم»...
و«لمن يريد أن يفهم»، يمكن اعتبار هذه «الشروخ» القديمة بوابة لفهم المحرك النفسى للقبطى المعاصر الذى حملت روحه هذه الشروخ عبر الأجيال منذ الاضطهاد الرومانى للأقباط وحتى الآن.
قدم روبير عالما مدهشا من الفلكلور الشعبى القبطي، بما يعكس ثقافة واسعة به، تجعله يستحق أن يوصف بأنه «يكتب من الداخل» ... يتنقل العمل بين أحداث الواقع والتراثي، الواقع الذى بنى له حبكة درامية حول «جومر» الذى استوحى اسمه من سفر «هوشع» بالعهد القديم، ويعنى حرفيا «امراة من النار»، وعائلتها التى يعمل فيها الأب والأم ببيع صور القديسين والإيقونات بمنطقة السبع كنائس بمصر القديمة (مارجرجس)، الأب نازح من الصعيد هربا من الفقر، وله بالإضافة لجومر «مريم» و«يوسف».
وتواجه الأسرة بالإضافة لمشقة الفقر وصراع الحياة مشقة أخرى وهى جمال جومر الذى يجلب لهم المصائب، فتلجأ الأم إلى مارجرجس لتكون جومر فى حمايته.
ويمثل فسخ خطوبة جومر من الشاب المرشح للالتحاق بسلك الكهنوت، نقطة تحول لأعضاء الأسرة بالكامل، حيث تشهر «جومر» إسلامها، فتموت أمها كمدا، ويقتل شقيقها زميله الذى عايره بأخته، وتتزوج شقيقتها الصغرى «مريم» قريبها الصعيدى الذى يذيقها المر، إلى أن يتم العثور على «جومر» مقتولة داخل أحد الأديرة، وتحوم الشبهات حول عدد من الشخصيات، وتتلبس الحيرة مسئول التحقيق، لدرجة شكه فى القديس النائم فى تابوته بالدير من مئات السنين، إلى أن ينتهى التحقيق بمفاجأة، بعد أن يأخذنا الكاتب فى رحلة طويلة مع تاريخ الرهبنة، واضعا لها تعريفا واضحا للرهبنة: هى «الصوم بمقدار والصلاة بمداومة وعفة الجسد وطهارة القلب وسكوت اللسان وحفظ النظر والتعب بقدر الإمكان والزهد فى كل شيء»... ومن خلال استعراض تلك الحركة، يرجع أصل تسميتها بالرهبنة إلى قول من كان يسلكها أنه «راهب» من الله.
ربما تتضح تلك «الخربشات» التى ذكرها الكاتب فى بداية العمل بجلاء فى إسهاب الكاتب فى الحديث عن قصص ومراحل الاضطهاد للأقباط سواء فى عصور الاضطهاد القديمة التى عرفت بعصور «الشهداء» أو حديثا المتمثلة فى الإبعاد من الوظائف مثلا.
كما أسهب فى نقل أدوات وطرق تعذيب الأقباط على يد الرومان، ووصف بدقة أدوات التعذيب وطريقة عملها، وكأن الألم لم يبارح الجسد القبطى حتى الآن.
كما أورد نصوصا وصلوات وابتهالات قبطية تراثية، وحرص على ذكرها كاملة، كما أورد عددا من الصلوات «التراثية»، التى ربما لا يعرفها الكثيرون من الأقباط أنفسهم، ووصف طريقة أدائها بالتفصيل، لكن رغم ذلك لم يحلنا إلى أى مراجع للتأكد إن كانت هذه النصوص حقيقية أم من إبداع الكاتب.
لم يشهد الكتاب تعقيدا فى «خطوط سرد» التى جاءت محدودة، حتى التنقل بينها –ولم يكن كثيرا- تم بسلاسة ووضوح، خاصة أن العمل يدور حول أربعة عوالم حكائية: جومر وأسرتها، الكنيسة والدير فى زمن الرواية، الدكتور «نادر» و«عبد الغني» البواب وزوجته فاطمة، والرهبان قديما.
أما على مستوى الخط الزمنى للعمل، فقد بدأ من الزمن الحاضر، وكانت الارتدادات للماضى تتم بشكل خاطف من خلال العودة بالذاكرة لأحد الأبطال، إلى أن انتقل كليا إلى زمن قديم، فترة تأسيس الرهبنة فى مصر، هروبا من اضطهاد الرومان للمسيحيين، ويستمر الخط الزمنى سائرا إلى أن يعود فجأة إلى الحاضر مرة أخرى فى آخر سطور العمل ليكشف سر مقتل «جومر».
ورغم الانفصال الذى أحدثه الكاتب فى الرواية، بداية من الصفحة 77 وحتى الصفحة الأخيرة التى انكشف فيها السر، بالانتقال من الحاضر إلى الماضي، فإن التشويق واللهاث وراء الأحداث لم ينقطع بل ازداد إيقاعه، ونجح ببراعة فى الحفاظ على استمرارية القراءة، بحثا عن إجابة لعديد من الأسئلة الشائكة التى طرحها العمل.