الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
وماذا بعد الاعتراف ?
كتب

وماذا بعد الاعتراف ?




 


كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 10 - 07 - 2010



اعتراف الحكومة بفشلها فى تسويق إنجازاتها لا يعفيها من المسئولية
«التوازن الإعلامى» ضرورة، ولكن ليس بطريقة الاتحا د الاشتراكى التعبوى
معايير الستينيات لا تصلح الآن، ومصر أفلتت من «سيناريوهات المصيدة»
الأحزاب القوية هى الخيار الآمن للديمقراطية والمحظورة طريقها مسدود
هل يتصور رجال الأعمال الذين يحتضنون الحية أنهم محصنون ضد لدغاتها؟
احترام حقوق الإنسان لن يتأتى بضرب الشرطة ورجالها من «لحم ودم»
ظاهرة «السياسى المزدوج» فى مصر أعلى من المعدلات المسموح بها عالميا
المزايدة بأوجاع الفقراء لن تخرجهم من دائرة الفقر والمرض
ضرب الحزب الوطنى لن يقوى شوكة المعارضة بل يضعفها

لا أكاد أذهب إلى أى مكان، إلا وتواجهنى أسئلة وآراء سلبية حول حقيقة الأوضاع فى مصر، ابتداء من الترشيح للرئاسة حتى قضية الفقر والفقراء.. وسواء كانت الانتقادات حادة وعنيفة، أو هادئة ومنطقية، فهى تعكس مشكلة حقيقية ضخمة، تم تشخيصها، ولكن لم يتم حتى الآن التوصل إلى حلول لمواجهتها. أما المشكلة فهى اعتراف الحكومة بالعجز عن تسويق إنجازاتها، فأصبحت كمن يحرث فى الماء، ولكن السؤال هنا: هل يكفى الاعتراف بالعجز عن التسويق كبديل للتسويق؟ وهل يستريح ضمير الحكومة وتهدأ أعصابها، وكلما تواجهها مشكلة تعلقها على شماعة «فشل سياسة التسويق»؟
الفوضى الإعلامية بفعل فاعل!
يعترف الجميع بلا استثناء بأن الانفتاح الإعلامى «على البحرى» الذى حدث فى مصر فى السنوات الأخيرة هو الذى هيأ الأجواء لفقدان الثقة فى المجتمع، والاجتراء على سلطان الدولة والمساس بهيبة الحكم.. ورغم ذلك فلا تبدو فى الأفق أى بارقة أمل لتصحيح هذه الصورة المغلوطة. لا تتوافر القدرة ولا الرغبة لخلق «توازن إعلامى»، ليس المقصود منه العودة إلى مدرسة إعلام الاتحاد الاشتراكى العربى، ولكن إصلاح الجناح المكسور الذى يحقق الطيران بأمان فى فضاء لا حدود له تسيطر عليه الصحافة الخاصة صباحا، والفضائيات المتصارعة مساء، والجميع يجعل الدولة والحكومة «لوحة تنشين»، للفوز بأكبر قطعة من كعكة الإعلانات والمشاهدة وألقاب الشجاعة والبطولة والجرأة.
يبدو المشهد الآن، وكأن الفوضى الإعلامية بفعل فاعل، فمن أراد أن يحقق أكبر قدر من المكاسب المادية والمعنوية، عليه أن يبهدل الحكومة ويسفه الإنجازات ويشكك فيها، ويضخم المشاكل والأزمات، وبمرور الوقت أصبح من يدافع عن الدولة والحكومة كمن يضبط متلبسا فى أتوبيس مزدحم.
إنها مشكلة مستعصية الحل، لأسباب كثيرة يصعب شرحها، ولكن من أخطر نتائجها أن الشعور بالعجز عن التسويق سيصبح «عقدة مزمنة» لن تعانى منها الحكومة الحالية فقط، بل أيضا الحكومات القادمة.
«القط لا يحب إلا خنّاقه»
هل يدرك بعض رجال الأعمال أنهم أسسوا بفلوسهم صحفا وفضائيات تهيئ الناس للثورة عليهم؟.. أم أنهم يعيشون فى بلهنية، ويتصورون أن الذى يحتضن الحية سيأمن لدغها؟.. فى مصلحة من تضخيم قصص الفساد، وعدم قصرها على أصحابها فقط، لدرجة أن البعض يطالب بإنهاء «سيطرة رأس المال على الحكم» وهو أحد الأهداف الستة التى قامت من أجلها الثورة.
لا يستحي البعض أن يتناولوا إفطارهم فى وزارة الداخلية ويتغدوا مع الوزراء ويتعشوا مع مسئولى الحزب الوطنى، ورغم ذلك يسخرون أدواتهم الإعلامية لهجوم شرس وعنيف، يضرب مقومات الدولة وأركان النظام، ومثلهم نماذج أخرى كثيرة ترتدى عباءات متنوعة، وهى ظاهرة يطلق عليها «السياسى المزدوج» الذى يلعب بالثروة والسلطة، ولكن المشكلة أن عددهم زاد فى مصر عن النسب المسموح بها عالميا.
أصبح أكثر المستفيدين من الحكومة ضد الحكومة يحصلون منها على المزايا والقروض والأراضى والمشروعات، ويقومون بتعريتها والهجوم عليها والتشكيك فى إنجازاتها، بأموالهم وإعلاناتهم وصحفهم الخاصة وفضائياتهم.. ولكن يبدو أن «القط لا يحب إلا خناقه»!
الحزب الوطنى ضرورى لبقاء المعارضة
نظريات العلوم السياسية تقول إن الحزب المرشح للحكم أهم من الحزب الذى يحكم بالفعل، وإذا طبقنا ذلك على الأوضاع فى مصر، فما هو المهيئ لخلافة الحزب الوطنى؟
الجماعة المحظورة لن تحكم مصر، لأنها لن تصل إلى ذلك إلا عن طريق الفوضى والدماء.. ومصر - بإذن الله - محصنة من ذلك، ويحميها جيش وطنى قوى، يحرس دستورها، ويحمى مقومات الدولة وأركانها وشعبها.
الأحزاب التاريخية، مثل الوفد والناصرى والتجمع والأحرار، تبذل جهدها للحصول على تمثيل مشرف فى البرلمان، ولكن ليس أغلبية تمكنها من تشكيل حكومة.
فى ضوء ذلك يخطئ من يتصور أن القضاء على الحزب الوطنى سيكون فى مصلحته، على العكس تماما لأن هذا يفتح بوابة جهنم للصراعات والاقتتال الحزبى، مثلما كان يحدث قبل الثورة، وأدى إلى فساد الأحزاب، وأصبحت جميعا لعبة فى يد الإنجليز والقصر.
فى الطريق إلى التداول السلمى للسلطة
انظروا لحجم المتغيرات الكبيرة التى حدثت فى مصر فى السنوات الخمس الأخيرة، من حراك سياسى واجتماعى هائل، يؤكد أن مصر تسير على طريق التداول السلمى للسلطة، بخطى ثابتة وهادئة، تحقق التغيير الحقيقى، وليس القفز إلى المجهول.
لن يتحقق التداول بالخطب والشعارات، ولكن عن طريق صندوق الانتخابات، والبطل الحقيقى هو الناخب الذى يتزايد لديه مستوى الوعى، كلما ارتفعت حرارة المنافسة السياسية بين الأحزاب، والشعوب - كما يقول المثل - كالنساء تؤمن بالدليل أكثر مما تؤمن بالقسم.
الأحزاب القوية هى الخيار الآمن لحماية الديمقراطية، ليس مطلوبا أن يكونوا عشرة أو خمسة، بل يكفى أن يشب حزب واحد قويا بجوار الحزب الوطنى، يكون مؤمنا بثوابت النظام والدولة ومحافظا عليها، ويفتح الطريق إلى اتخاذ خطوات جادة لتداول السلطة، ويجعل مدة الرئاسة فترتين فقط، تعديلا مطروحا وقابلا للنقاش.
الحزب الوطنى لن يحكم للأبد والتغيير هو سنة الحياة، والذين يطلبون تغيير الحزب الوطنى لم يفعلوا شيئا ليحلوا محله غير الصخب والضجيج والشعارات البراقة، التى لا تشبع ولا تملأ البطون.
حقوق الإنسان لا تتحقق بالوعود
تعهدت الحكومة حين طلبت مد العمل بقانون الطوارئ بقصره على الإرهاب والمخدرات، ومطلوب منها أن تفى بوعدها بالإفراج عن المعتقلين فى غير هذه القضايا، وقد اتخذت وزارة الداخلية بالفعل خطوة جادة بالإفراج عن بعض المعتقلين من أبناء سيناء، حققت ارتياحا وهدوءا كبيرا.
النقطة التى أؤكد عليها هنا هى أن ترسيخ حقوق الإنسان فى مصر لن يتحقق بضرب الشرطة أو التشكيك فى حيادها أو افتعال القضايا الملفقة التى تشوه صورة رجالها، فالأمن والاستقرار لن يتحققا إلا بجهاز أمنى قوى ويعمل تحت مظلة القانون ويلتزم بأحكامه وضوابطه.
يمكن أن يحدث انفلات أو تجاوز، ولكن مثل هذه الأمور يجب معالجتها فى إطار القانون، وليس بضرب الشرطة والتشكيك فيها، خصوصا أن وزير الداخلية حبيب العادلى يتعامل مع مثل هذه التجاوزات بالشدة والصرامة.
الشرطة تقوم الآن بعمل دورات مكثفة لضباطها بمشاركة الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان، وتحاول أن تصلح موروثات ومفاهيم قديمة، وأن تتحول إلى جهاز عصرى مثل سائر الدول المتقدمة وقطعت شوطا طويلا على الطريق، ولذلك فليس معقولا أن يتم جلدها وتصفية الحسابات معها كلما وقع حادث.
علينا أن ندرك أن رجال الشرطة من «لحم ودم» ولهم أسر وعائلات ويتعرضون لضغوط حياتية ونفسية وعصبية هائلة بسبب الأجواء السائدة الآن، ويجب تهيئة المناخ المناسب لهم، لأن المهام الملقاة على عاتقهم خطيرة.
معايير الستينيات خطأ كبير
من الأخطاء الكبيرة التى تقع فيها النخبة وبعض وسائل الإعلام هى الحكم على ما يحدث الآن بمعايير الستينيات، وحتى عند تطبيق هذه المعايير تتناقض الآراء والتفسيرات:
يتعمد البعض الانتقاص من دور مصر خارجيا على أساس أنها كانت فى الستينيات أكثر قوة وتواجدا، ويتجاهلون أن الظروف وموازين القوى عالميا ومحليا وإقليميا تغيرت كثيرا، وما كان يصلح فى تلك الحقبة ليس ضروريا أن يكون صالحا الآن.
على سبيل المثال وليس الحصر، فعلاقات مصر بأفريقيا عامة ودول حوض النيل خاصة أصبحت شديدة التعقيد، ولم يعد هناك مجال لمساعدة دولها على الاستقلال أو مدها بالسلاح، ودخول أفريقيا يحتاج مليارات الدولارات التى لا تقدر عليها إلا دول فى حجم الولايات المتحدة أو الصين، ومع ذلك مازالت مصر تلعب دورا مهما ومؤثرا فى ضوء المتغيرات الجديدة.
لم يعد متاحا اللعب على توازن القوى العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، واستبدلت مصر ذلك بدور مؤثر وفعال فى علاقاتها الخارجية، مع الولايات المتحدة وأوروبا والدول البازغة حديثا وغيرها من دول العالم.
العلاقات العربية - العربية لم تعد كما كانت بعد بزوغ دول تمتلك الثروة، وتريد أن تلعب دورا على المسرح العالمى والإقليمى، وتتصور أن ذلك لن يتأتى إلا بمنازعة مصر وخطف الراية منها.
ويطول الشرح الجدلى، ولكن الشىء المؤكد هو أن مصر استطاعت أن تنأى بنفسها وبشعبها عن حروب وصراعات كان الهدف منها توريطها فيها.. وتكرار نفس سيناريو «مصيدة 67» ولكن لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
رغم كل ذلك، مازال البعض يتطلع إلى المستقبل بالعودة إلى الماضى، وكأن الماضى كله انتصارات وليس فيه نكسات وانكسارات.
إذن.. مصر على فين؟
يجب أن ندرك أن التشكيك والهدم لا يبنيان وطنا، وأن المتاجرة بآلام وأوجاع الفقراء لن تخرجهم من دائرة الفقر، وأن المساس بهيبة الدولة لن يقوى شوكة المعارضة، وأن القضاء على الحزب الوطنى لن يفتح الطريق إلى تداول السلطة.
يجب أن ندرك أن أى ثقب فى سفينة الوطن يهدد الجميع بالخطر، وأن الشعوب التى تفقد الثقة فى دولتها ومؤسساتها تفقد الثقة - أيضا - فى نفسها، وأن نافخ الكير «الرائحة الكريهة» سوف ينال نصيبه منها.
يجب أن ندرك أن مصر بلد المصريين جميعا، من الرئيس حتى أصغر مواطن، ومن حقهم جميعا أن يقلقوا عليها، ويخافوا على مستقبلها، لكن دون أن يتحول الخوف إلى «فزاعة» لإرهاب الآخرين وابتزازهم.
يجب أن نثق أن الصورة ليست قاتمة ولا سوداء كما تُصورها بعض وسائل الإعلام، وأن الدولة المصرية ليست غائبة عن مشاكل شعبها أو تعيش فى عالم آخر، وأنها تضع يدها على الثغرات وأوجه الخلل والقصور، ولكن علاج الصداع - وهو أبسط الأمراض - يحتاج بعض الوقت، فمابالنا بالأمراض النفسية والمستعصية والمزمنة.
أعود إلى قضية التسويق التى اعترفت الحكومة بفشلها، وعجزت عن تحديد روشتة لعلاج الفشل، وأقول:
1- هناك شعوب أكثر فقرا من مصر، ولكنها ليست بهذه الدرجة من التشكيك والكآبة.
2- هناك إنجازات تفعلها الحكومة، ولكن يسرقها منها غيرها.
3- هل لدينا أمل فى حل هذه المعادلة الصعبة.. أم يبقى الوضع على ما هو عليه؟
الإجابة: أعود للسطر الأول من المقال.

كرم جبر