الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
قوافل الإغاثة الفاسدة !
كتب

قوافل الإغاثة الفاسدة !






  
كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 24 - 07 - 2010


- كارثة بيئية تهدد غزة بسبب الأدوية الفاسدة والنفايات الكيماوية
- أجهزة الغسيل الكلوي منتهية الصلاحية وأكفان للأطفال وتاميفلو
- هل استيقظ ضمير «قناة الجزيرة» فقامت بكشف فضيحة القوافل؟
- العرب مشغولون في حرب القوافل ونتانياهو يستكمل تدمير القضية
- أطراف كثيرة تلعب في الجراج الخلفي للخلافات الفلسطينية
- العرب يأسوا من المصالحة والمسرح مفتوح للباحثين عن أدوار

هذا الكلام ليس من عندي، ولكن بثته «قناة الجزيرة»، في تقرير إخباري مصور، داخل مستودعات وزارة الصحة في غزة، يوم 20 يوليو الجاري.
يقول التقرير إن غزة تحولت إلي مقلب للنفايات الكيماوية التي ترسلها الحكومات والمؤسسات العربية، حيث توجد أطنان من الأدوية المنتهية الصلاحية بنسبة 70%، وهي فاسدة ولا تصلح للاستخدام.

ويقول: إن أجهزة الغسيل الكلوي التي تم إرسالها إلي غزة منتهية الصلاحية، بعد استنفاد ساعات العمل المسموح بها، فلماذا أرسلتها الحكومات العربية إلي غزة، لمساعدة أهاليها المحاصرين أم للتخلص من هذه الأجهزة الفاسدة؟
ويقول: الأدهي والأمر أن بعض الحكومات العربية تقوم بإرسال أكفان مقاس 2,1 متر لا تصلح إلا للأطفال، وكأنها تقول لإسرائيل «اقتلوا أطفالنا وعلينا تكفينهم»، وهي إهانة بالغة واجتراء مفضوح علي تضحيات أهالي غزة.
مدير ملف التبرعات بغزة الدكتور منير البرش ومراسل الجزيرة تامر المسحال، تحدثا بمرارة وأسي وأمامهما مئات الصناديق والكراتين الضخمة، المليئة بمعونات، لا يصلح منها سوي أقل من الربع، أما النسبة الأكبر فتحتاج إلي أفران للنفايات الكيماوية لا توجد في غزة، وإن لم يحدث ذلك ستقع كارثة بيئية.
الطعام وليس الملح.. الملابس وليس الأكفان!
دولة عربية شقيقة أرسلت لأهالي غزة شحنة من أقراص التاميفلو لعلاج أنفلونزا الخنازير قيمتها 2 مليون دولار، رغم انحسار هذا المرض.. ويبدو أن وزارات الصحة العربية التي تعاقدت علي هذا العقار بالمليارات، لم تجد سبيلاً للتخلص منه إلا بإرساله إلي غزة.
بسام برهوم - مدير اللوازم الصحية بغزة - أكد أن القطاع خال بنسبة 100% من الأدوية الرئيسية التي يحتاجها المرضي، رغم المكاتبات والرسائل والاستغاثات التي يتم إرسالها إلي جهات إرسال القوافل، فإنهم لا يرسلون سوي الأدوية الفاسدة.
دولة عربية أخري قامت بإرسال طائرة محملة بملح الطعام، مع أن أهالي غزة يحتاجون الطعام وليس الملح، يحتاجون الملابس وليس الأكفان، يحتاجون أدوية علاج الجرحي وليس التاميفلو.. لقد أصبحت تلك النفايات مشكلة ضخمة تزيد آلام ومعاناة غزة.
يقظة ضمير.. أم «دق إسفين»؟
لا أدري لماذا بثت «قناة الجزيرة» هذا التقرير المصور، بينما كانت تقود حملات النضال الكلامي والشعارات الجوفاء لصالح تلك القوافل، أينما جاءت وأيا كان محتواها.. وقادت أيضا حملات الهجوم علي مصر ودورها وتضحياتها، من أجل إدخال هذه القوافل، وفتح منفذ رفح «عمال علي بطال»، دون أن تكون هناك ضرورة لذلك؟
هل استيقظ ضمير «قناة الجزيرة» فأرادت أن تكفر عن ذنوبها وتقول كلمة حق، تكشف من خلالها أسرار الضجة الإعلامية الكاذبة حول تلك القوافل، أم أنها تعمد إلي «دق أسافين» لضرب بعض الأنظمة العربية والمؤسسات الرسمية، التي تناولت أسماءها الصور المطبوعة علي الأدوية الفاسدة؟
أيا كان الأمر فالحقيقة التي تضمنها التقرير هي أن معظم قوافل الإغاثة كانت للدعاية والبروباجندا والشو الإعلامي والفرقعة تارة.. وللهجوم علي مصر والتشكيك في دورها تارة أخري، مع أن 75% من هذه القوافل عبارة عن نفايات سامة تقتل ولا تداوي، تمرض ولا تشفي، وتدفع الدول ملايين الدولارات للتخلص منها في مقابر آمنة.
الذي حدث أن الدول تخلصت من نفاياتها بطريقة دعائية جدا وحصلت علي أوسمة النضال بأقل الأسعار، ولكن الذي لا أفهمه حتي الآن هو: ماهي الدولة العربية المفترية التي أرسلت لغزة أكفاناً للأطفال؟ وهل لديها - مثلاً - كميات من قماش التنجيد التالف، أرادت أن تتصدق به علي أطفال غزة؟
العرب لا يعرفون ماذا يريدون
الذي لا أفهمه هو أن الجهات المانحة وأهالي غزة يعلمون جيدا أن هذه القوافل لا تشبع ولا تغني من جوع، وأنها تشتت الانتباه عن القضية الجوهرية، وهي فتح جميع المعابر، وإعادة إعمار غزة، وفتح سبل كسب لقمة العيش لسكانها عن طريق خلق مشروعات استثمارية حقيقية، وليس معونات كاذبة تخدم أصحابها ولا تنفع أبداً السكان المحاصرين.
حتي لو تم فتح منفذ رفح بشكل دائم، واستقبل كل يوم مئات القوافل، فلن تزيد حمولتها عن الملح وأكفان الأطفال وأجهزة غسل الكلي الفاسدة، وبمرور الوقت سوف تتحول القوافل إلي فضيحة، وسوف يستقبلها سكان غزة بالحجارة، بدلاً من الأحضان والقبلات.
الدول لا تُبني بالشعارات، والشعوب لا تشبع بالملح، والأطفال لا يكبرون بالأكفان، ولكنها المتاجرة الرخيصة والعبث التآمري، وكأن العرب احترفوا النصب علي بعضهم البعض، وأدمنوا خداع بعضهم البعض، ولا يجيدون إلا الكلام الأجوف، دون أن تكون لهم مواقف حقيقية أو أجندات واقعية.. لا يعرفون ماذا يريدون، وإذا عرفوا فإنهم يسلكون الطرق الخطأ، التي لا توصل أبداً إلي الهدف.
غزة ليست حائط مبكي للمناضلين
لقد اختزل البعض قضية فلسطين وإعلان قيام دولتها، اختزلوا القدس والأقصي، اختزلوا آلة الاحتلال الجهنمية التي تحصد شبابهم كل يوم.. اختزلوا كل ذلك في مظاهرات إعلامية فارغة، تلهث وراء القوافل الفاسدة، لتجعل منها بطلة فيلم «مأساة غزة».
وكأن الهدف الأخير هو أن يعثر دراويش القوافل علي كاميرا تصورهم بالعلم الفلسطيني.. وهم يعانقون قادة حماس، وكأنهم «جابوا الديب من ديله».. سفن في البحر، وقوافل في البر، وكلها ترفع شعار «إلي غزة خذوني معكم».. وبعد السلام والعناق والظهور أمام الفضائيات، يديرون ظهورهم عائدين إلي بلادهم، تاركين وراءهم تلك المعونات التي فضحتها قناة الجزيرة، الناطق الرسمي بلسان المناضلين الجدد.
نسينا صندوق إعمار غزة الذي وعدت فيه مختلف الدول بخمسة مليارات دولار تبرعات، لإعادة بناء المدارس والمنازل والمستشفيات والمرافق العامة والخدمات.. وتفرغ أصحاب القوافل وقادة حماس لقوافل الدعاية الفاسدة، التي لم تبن مدرسة، ولم تضع طوبة في مستشفي تم تدميره.
هل الهدف أن يظل الشعب الفلسطيني في حالة مأساوية حتي يجد المتاجرون بقضيته موضوعات يزايدون عليها ويكسبون من ورائها.. هل من المفترض أن تستمر حالة البطالة والتشرد، حتي يظل معبر رفح حائط مبكي لكل المناضلين، يذرفون عليه الدموع والآلام؟
«نتانياهو» هو أول المستفيدين
المستفيد من هذا الوضع المأساوي هو نتانياهو الذي يقوم بعملية مراوغة بادعاء رغبته في تحقيق السلام، بينما يعمل في صمت علي تصفية القضية الفلسطينية، مستغلاً حالة الانقسام الرهيبة في الصف الفلسطيني، ويبذل قصاري جهده لضياع الفرصة تلو الفرصة، بعد إخفاق كل الجهود علي مدي 17 سنة.
العرب يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل تلك القوافل الفاسدة، ويصنعون ستاراً كثيفاً من الدخان حول الممارسات الإسرائيلية اليومية من مصادرة للأراضي الفلسطينية وهدم للبيوت واعتداءات متكررة علي المقدسات الإسلامية والمسيحية، وممارسات عدوانية تضرب كل فرص تحقيق السلام في مقتل.
ما الفوائد التي عادت علي غزة والقضية الفلسطينية بعد العدوان الهمجي الإسرائيلي علي قافلة الحرية، وهل تجاوز رد الفعل العربي والعالمي عن بيانات هزيلة للاستنكار، وضاعت الدماء علي سطح السفينة بلا ثمن وبلا ردع وبلا عقاب؟
لقد استثمر نتانياهو المجزرة في الدعوة إلي بدء مباحثات السلام المباشرة، وهو يعلم جيدا أنها المسمار الأخير في نعش السلام والقضية الفلسطينية، هو يراهن علي انقسام الصف الفلسطيني في الوقت الراهن لأنها الفرصة الذهبية لإسرائيل للتهرب من التزامات السلام، وتكريس الدعاية المغرضة أمام العالم بأنها لا تجد طرفاَ فلسطينياَ تبرم معه الاتفاقات؟
أين المصالحة الفلسطينية؟
نفاق ما بعده نفاق ومسرحية هزلية بمشاركة جميع الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث يصف أوباما نتانياهو بأنه «رجل سلام» بينما يتباهي نتانياهو أمام إحدي العائلات الإسرائيلية بأنه هو الذي عرقل اتفاق أوسلو ودفنه وأجهز عليه، ولم يكن يعلم أن التليفزيون الإسرائيلي يقوم بتصوير لقائه، ثم أكمل: «إن الولايات المتحدة ليست سوي شيء يسهل تحريكه».
أين المصالحة الفلسطينية التي تجبر إسرائيل قبل غيرها علي احترام حقوقها المشروعة وأولها إعلان قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وهل يتصور الفلسطينيون أنهم سيحصلون علي حقوق أعلي من سقف خلافاتهم؟
كل الأطراف تلعب في الجراج الخلفي للخلافات الفلسطينية، ويعلم الجميع أن المصالحة بين مختلف الفصائل مستحيلة، ولا يثق أحد أبدا في التصريحات التي يطلقونها من لحظة لأخري بأنهم سيوقعون اتفاق المصالحة قريباَ.. فمثل هذه التصريحات لا يكون الهدف من ورائها إلا تحقيق بعض المزايا والمنافع للفصائل المتناحرة.
لقد وضعت العواصم العربية الكبري يدها في الماء البارد، ولم تعد متحمسة للقيام بجهود الوساطة بين الفصائل الفلسطينية، ولا حتي للدفع، بعد أن خذلوا القاهرة والرياض والدوحة وعدن، ولن تغامر أي عاصمة عربية باحتضان جهود المصالحة لأنها تعلم جيدا أن مصيرها الفشل.
تنقية الأجواء وتفعيل الدور المصري
العرب يبحرون الآن علي شاطئ اليأس، حتي إذا اجتمعوا في القمم السنوية أو في مؤتمرات وزراء الخارجية بالقاهرة، فهم يعلمون جيدا أن المشاكل بين الفلسطينيين أعمق من المشاكل مع إسرائيل.. وأنه لا طريق سوي تنقية الأجواء ولم الشمل ووحدة الصف.
من أراد أن يأخذ ملف فلسطين، فلا أحد يمنعه من ذلك، بحلوه ومره، بمشاكله وإحباطاته، بفتح وحماس وتاريخ دام عمره 60 عاماَ، مازال يقطر دماً حتي الآن.. ومصر لا تمنع أحداً من أن يلعب دوراَ أو يتبوأ مكانه.
لا طريق إلا بدعم وتأييد دور مصر وجهودها من أجل المصالحة والتسوية.. وقد جرب الفلسطينيون كثيرا اتهامها والهجوم عليها والتشكيك في جهودها، ولم يصلوا إلي شيء ولم يحصدوا سوي مزيد من الخسائر والقطيعة وضياع الأمل.
الدور لا يُشتري بالمال، والمكانة لا تنتزع بالخطب، وتكامل الأدوار أفضل ألف مرة من تقسيمها، فهي ليست معركة فيها متنافسون للفوز بأي غنيمة، ولكن فيها خسائر كبيرة يتحملها الفائز قبل المهزوم.
القادم أسوأ، وفلسطين لن تحررها قوافل الإغاثة وعلمها لن يرتفع فوق السواري بالباحثين عن الدعاية الذين يأتون إلي غزة من كل فج عميق.
فلسطين تحتاج المصالحة ووحدة الصف العربي والمعونات الحقيقية لإعادة إعمار غزة، وإعادة الحياة الكريمة إلي سكانها، وتحتاج فرص العمل التي تفتح بيوتهم وتحميهم من عدو لا يرحم ومستعمر هو الأسوأ في تاريخ البشرية.
شكراً لقوافل الإغاثة، ولكن القضية الفلسطينية تحتاج إلي ما هو أكبر بكثير من الإغاثة.

كرم جبر