الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

نازك الملائكة «مبدعة الشعر الحر»




شعراؤنا شموس فى سماء الإبداع ينيرون لنا ببصيرتهم وبصرهم طريقنا ويخبرونا ما لم نخبره  فيما فاتنا من أمورنا الحياتية فهم بمثابة توثيق وشهادة على عصرهم ونحن نخصص هذه المساحة من الإبداع فى ذكرى رحيل الشاعرة نازك الملائكة «بغداد 23 أغسطس 1923- القاهرة 20 يونيو 2007»، التى يرجع البعض إليها بداية كتابة الشعر الحر 1947، حتى إن الكثيرين يعتبرون قصيدتها «الكوليرا» من أوائل الشعر الحر فى الأدب العربى، درست نازك الملائكة اللغة العربية وتخرجت عام 1944م ثم انتقلت إلى دراسة الموسيقى ثم درست اللغات اللاتينية والإنجليزية والفرنسية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وانتقلت للعيش فى بيروت لمدة عام واحد ثم سافرت عام 1990 على خلفية حرب الخليج الأولى إلى القاهرة حيث توفيت.
 

 
ذات مساء
ثورة من ألم، من ذكريات
خلف نفسى، ملء إحساسى العنيف
 وجموح فى دمى، فى خلجاتى
فى ابتساماتى، فى قلبى اللهيف
 إن أكن أبسم كالطفل السعيد
 فابتساماتى وهم وخداع
إن أكن هادئة، بين الورود
ففؤادى فى جنون وصراع
أىّ ماساة تراها مقلتايا !
أىّ حزن عاصر فى نظراتى
جمدت فوق شقائى شفتايا
وانحنت كفّاى تحت الرعشات
لا تسلنى عن خيالاتى ولحنى
فالدجى الآن بغيض فى عيونى
أين ألقى بصرى الباكى وحزنى
إن أنا حوّلت عن كفّى عيونى
أين أرنو ؟ كلّما حوّلت عينى
طالعتنى صورة الوجه اللهيف
ذلك الوجه الذى ألهب فنّى
بمعانى الشعر والحبّ العنيف
أيّها الغادر، لا تنظر إليّا
قد سئمت الأمل المرّ الكذوبا
حسب أقدارى ما تجنى عليّا
وكفى عمرى حزنا ولهيبا
فيم أبقى الآن حيرى فى مكانى ؟
آه لو أرجع، لو أنسى شقائى
أدفن الأحزان فى صدر الأغانى
وأناجى بالأسى صمت المساء
ليتنا لا نلتقى، ليت شقائى
ظل نارا، ظلّ شوقا وسهاد
 يا دموعى، أيّ معنى لّلقاء
إن ذوى الحبّ وأبلاه البعاد
أيّها الأقدار، ما تبغين منّا ؟
فيم قد جئت بنا هذا المكانا ؟
آه لو لم نك يا أقدار جئنا
ها هنا، لو لم تقدنا قد مانا
ما الذى أبقيت فى قلبى الجريح
ليس إلا الألم المرّ الشديدا
لم يعد فى جسمى الذاوى وروحى
موضع يحتمل الجرح الجديدا
أكذا تنطفىء الذكرى ؟ ويفنى
حبنا ؟ والأمل الشعريّ يخبو
أكذا تذبل آمالى حزنا
وهى أشعار وأنغام وحبّ ؟
خدّر الحزن حياتى وطواها
لم تعد تعنينى الآن الحياة
أبدا ينطق باليأس دجاها
وتغنّى فى فضاها العاصفات
لم يعد من حلمى غير ظلال
من أسى مرّ على وجهى المرير
آه لا كان بكائى وخيالى
أيّها الليل، ولا كان شعورى
والتقينا، لا فؤاد يتغنّى
لا ابتسام رسمته الشفتان
لم يعد إحساسنا شعرا وفنّا
ليتنا ضعنا ومات الخافقان
لم يعد فى نفسى الولهى مكان
لأسى أو فرحة أو ذكريات
أيّ معنى للمنى ؟ فات الأوان
وذوت عيناى، تحت العبرات
والتقينا فى الدجى، كالغرباء
تحت جنح الصمت يطوينا الوجوم
كل شيء ضاحك تحت السماء
وأنا وحدى تذوينى الهموم
هكذا يا ليل صوّرت شقائى
فى نشيد من كآباتى وحزنى
قصّة قد وقعت ذات مساء
وحوت روحى واحزانى ولحني
 
 
 
 
أغنية
اسكنى يا أغانى الأمل
فالهوى قد رحل
وانطوى سرّه فى مقل
رصفت بالملل
***
أين أين ترى ذاهبين
فى سكون السنين
والطريق الذى تسلكين
صامت لا يبين
***
ولمن تخلقين العطور
والليالى تدور؟
ولمن دفؤك المسحور؟
للدجى؟ للقبور؟
***
ولمن أنت والمنشدون
رحلوا فى سكون؟
والأسى، يا أغانى، ديون
دفعتها عيون
 ***
كم ملأنا بك الأقداح
 وسقينا الرياح
كم منحناك للأشباح
فى رضا وسماح
***
فابحثى فى شعاب الوجود
عن هوانا الشرود
كفّنا نديت بالوعود
وهو ليس يعود
 
 
 
غرباء
أطفئ الشمعةَ واتركنا غريبَيْنِ هنا
نحنُ جُزءانِ من الليلِ فما معنى السنا؟
يسقطُ الضوءُ على وهمينِ فى جَفنِ المساءْ
يسقطُ الضوءُ على بعضِ شظايا من رجاءْ
سُمّيتْ نحنُ وأدعوها أنا:
مللاً. نحن هنا مثلُ الضياءْ
غُربَاءْ
 اللقاء الباهتُ الباردُ كاليومِ المطيرِ
كان قتلاً لأناشيدى وقبرًا لشعورى
دقّتِ الساعةُ فى الظلمةِ تسعًا ثم عشرا
وأنا من ألمى أُصغى وأُحصي. كنت حَيرى
أسألُ الساعةَ ما جَدْوى حبورى
إن نكن نقضى الأماسى، أنتَ أَدْرى،
غرباءْ
مرّتِ الساعاتُ كالماضى يُغشّيها الذُّبولُ
كالغدِ المجهولِ لا أدرى أفجرٌ أم أصيلُ
مرّتِ الساعاتُ والصمتُ كأجواءِ الشتاءِ
خلتُهُ يخنق أنفاسى ويطغى فى دمائى
خلتهُ يَنبِسُ فى نفسى يقولُ
أنتما تحت أعاصيرِ المساءِ
غرباءْ
أطفئ الشمعةَ فالرُّوحانِ فى ليلٍ كثيفِ
يسقطُ النورُ على وجهينِ فى لون الخريف
أو لا تُبْصرُ؟ عينانا ذبولٌ وبرودٌ
أوَ لا تسمعُ؟ قلبانا انطفاءٌ وخمودُ
صمتنا أصداءُ إنذارٍ مخيفِ
ساخرٌ من أننا سوفَ نعودُ
غرباءْ
نحن من جاء بنا اليومَ؟ ومن أين بدأنا؟
لم يكنْ يَعرفُنا الأمسُ رفيقين.. فدَعنا
نطفرُ الذكرى كأن لم تكُ يومًا من صِبانا
بعضُ حبٍّ نزقٍ طافَ بنا ثم سلانا
آهِ لو نحنُ رَجَعنا حيثُ كنا
قبلَ أن نَفنَى وما زلنا كلانا
غُرباءْ

 
الأعداء
 
نحن إذن أعداء
من عالم لا يفهم الأشواق
 ولا يعى أغنية الأحداق
 أعيننا لا تفهم النجوى
 الحبّ فيها سيرة تروى
 كان لها أمس
 وضمّه رمس
 من تربة البغضاء
 ***
نحن إذن أعداء
تفصلنا عوالم شاسعة
حدودها الجهولة الضائعة
تبثّ فى دروبنا المستحيل
فنذرع العمر الجديب الطويل
بحثا عن الباب
وحبّنا الخابى
يغرى بنا الصحراء
 ***
نحن إذن أعداء
ترقد فى أعماقنا الذكرى
مشلولة، ضائعة، حيرى
المقت يلقى فوقها ظلاّ
والحقد لم يبق لها شكلا
ولعنة الأيّام
خّلفت الأحلام
فوق الثرى أشلاء
***
نحن إذن أعداء
وإن تكن تجمعنا أحلام
من أمسنا أودت بها الأيّام
وإن تكن قد خلّفت أشياء
فى المقل الفارغة الجدباء
فى الأوجه الذاوية
كنجمة خابيه
 تغرب فى الظلماء
 ***
نحن إذن أعداء
وإن طغت فى دمنا الأشواق
ودّبت اليقظة فى الأرماق
 وبيننا عوالم شتّى
 ندركها كما يعى الموتى
 تحت التراب المهين
وقع خطى العابرين
وضجّة الأحياء
 
 
مرّ القطار
الليل ممتدّ السكون إلى المدى
لا شيء يقطعه سوى صوت بليد
لحمامة حيرى وكلب ينبح النجم البعيد،
والساعة البلهاء تلتهم الغدا
وهناك فى بعض الجهات
 مرّ القطار
 عجلاته غزلت رجاء بتّ انتظر النهار
من أجله.. مرّ القطار
وخبا بعيدا فى السكون
خلف التلال النائيات
لم يبق فى نفسى سوى رجع وهون
وأنا أحدّق فى النجوم الحالمات
أتخيل العربات والصفّ الطويل
من ساهرين ومتعبين
أتخيل الليل الثقيل
فى أعين سئمت وجوه الراكبين
فى ضوء مصباح القطار الباهت
سئمت مراقبة الظلام الصامت
أتصوّر الضجر المرير
فى أنفس ملّت وأتعبها الصفير
هى والحقائب فى انتظار
 هى والحقائب تحت أكداس الغبار
تغفو دقائق ثم يوقظها القطار
ويطلّ بعض الراكبين
متثائبا،  نعسان، فى كسل يحدّق فى القفار
ويعود ينظر فى وجوه الآخرين
فى أوجه الغرباء يجمعهم قطار
 ويكاد يغفو ثم يسمع فى شرود
 صوتا يغمغم فى برود
«هذى العقارب لا تسير !
كم مرّ من هذا المساء ؟ متى الوصول؟»
وتدقّ ساعته ثلاثا فى ذهول
وهنا يقاطعه الصفير
 ويلوح مصباح الخفير
ويلوح ضوء محطة عبر المساء
 إذ ذاك يتئد القطار المجهد
 ...وفتى هنالك فى انطواء
 يأبى الرقاد ولم يزل يتنهد
 سهران يرتقب النجوم
فى مقاتيه برودة خطّ الوجوم
أطرافها ..فى وجهه لون غريب
ألقت عليه حرارة الأحلام آثار احمرار
شفتاه فى شبه افترار
عن شبه حلم يفرش الليل الجديب
بحفيف أجنحة خفّيات اللحون
عيناه فس شبه انطباق
وكأنّها تخشى فرار أشعة خلف الجفون
 أو أن ترى شيئا مقيتا لا يطاق
 هذا الفتى الضجر الحزين
عبثا يحاول أن يرى فى الآخرين
شيئا سوى اللغز القديم
والقصّة الكبرى التى سئم الوجود
أبطالها وفصولها ومضى يراقب فى برود
تكرارها البالى السقيم
هذا الفتى..
وتمرّ أقدام الخفير
ويطلّ وجه عابس خلف الزجاج
وجه الخفير !
ويهزّ فى يده السراج
 فيرى الوجوه المتعبة
والنائمين وهم جلوس فى القطار
والأعين المترقبة
فى كلّ جفن صرخة باسم النهار
وتضيع أقدام الخفير الساهد
 خلف الظلام الراكد
وبقيت وحدى أسأل الليل الشرود
عن شاعرى متى يعود ؟
ومتى يجيء به القطار ؟
أتراه مرّ به الخفير
ورآه لم يعبأ به ..كالآخرين
ومضى يسير
هو والسراج ويفحصان الراكبين
وأنا هنا ما زلت أرقب فى انتظار
وأودّ لو جاء القطار..
وأودّ لو جاء القطار..

 
 
 
نهاية السلم
مرّت أيام منطفئات
لم نلتق لم يجمعنا حتى طيف سراب
وأنا وحدي، أقتات بوقع خطى الظلمات
خلف زجاج النافذة الفظّة، خلف الباب
وأنا وحدي..
مرّت أيام
باردة تزحف ساحبة ضجرى المرتاب
وأنا أصغى وأعد دقائقها القلقات
هل مرّ بنا زمن ؟ أم خضنا اللازمنا؟
مرّت أيام
أيام تثقلها أشواقي. أين أنا ؟
ما زلت أحدّق فى السلّم
والسلّم يبدأ لكن أين نهايته ؟
يبدأ فى قلبى حيث التيه وظلمته
يبدّأ..أين الباب المبهم ؟
باب السلّم ؟ 
***
مرّت أيام
لم نلتق ، أنت هناك وراء مدى الأحلام
فى أفق حفّبه المجهول
وأنا أمشي، وأرى ، وأنام
أستنفد أيامى وأجرّ غدى المعسول
فيفرّ إلى الماضى المفقود
أيامى تأكلها الآهات متى ستعود ؟
 ***
مرّت أيام لم تتذكر أن هناك
فى زاوية من قلبك حبا مهجورا
عضّت فى قدميه الأشواك
حبا يتضرّع مذعورا
هبه النورا
 ***
عد.. بعض لقاء
يمنحنا أجنحة نجتاز الليل بها
فهناك فضاء
خلف الغابات الملتفّات، هناك بحور
لا حدّ لها ترغى وتمور
أمواج من زبد الأحلام تقلبّها
أيد من نور
 ***
عد، أم سيموت،
صوتى فى سمعك خلف المنعرج الممقوت
وأظلّ أنا شاردة فى قلب النسيان
لا شيء سوى الصمت الممدود
فوق الأحزان
لا شيء سوى رجع نعسان
يهمس فى سمعى ليس يعود
لا ليس يعود
 
 
 
 
ألغاز
دعنى فى صمتى فى إحساسى المكبوت
لا تسأل عن ألغاز غموضى وسكوتى
دعنى فى لغزى لا تبحث عن أغوارى
اقنع من فهم أحاسيسى بالأسرار
لا تسأل إنى أحيانا لغز مبهم
أبقى فى الغيب مع الأسرار ولا أفهم
 روحى لا تعشق أن تحيا مثل الناس
أنا أحيانا أنسى بشريّة إحساسى
حتى حبّك..حتى آفاقك تؤذينى
فأنا روح أسبح كالطيف المفتون
قلبى المجهول يحسّ شعورا علويّا
لا حسّا يشبهه لا وعيا بشريّا
إذذاك أحسّك شيئا بشريّا قلقا
 قمّة أحلامى ترفضه مهما ائتلقا
إذذاك يحسّك روحى بعض الأموات
ما سمّى «أنت» هوى، لم تبق سوى ذاتى
فى وجهك أنظر لكنّى لا أبصره
 فى روحى أبحث عن شىء أتذّكره
أتذّكر، لا أدرى ماذا، ماذا كانا ؟
شىء لا شكل يحدّده..لا ألوانا
ألمبهم فى روحى يبقى فى إبهامه
دعه لا تسألنى عنه، عن أنغامه
دعنى فى ألغازى العليا، فى أسرارى
فى صمتى، فى روحى، فى مهمة أفكارى
فى نفسى جزء أبدىّ لا تفهمه
فى قلبى حلم علوىّ لا تعلمه
دعه، ماذا يعنيك لتسأل فى إصرار؟
الحبّ يموت إذا لم تحجبه أسرار
إنى كالليل : سكون، عمق، آفاق
إنى كالنجم : غموض، بعد، إبراق
فافهمنى إن فهم الليل، إفهم حسّى
والمسنى إن لمس النجم، إلمس نفسى