الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

هزيمتين وأوصل: قراءة الحلم من طرف واحد




فى ديوانه الأول (قلب أراجوز) الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة، قال الشاعر إبراهيم رفاعى (مابقاش عندى القدرة/ على قراية الحلم/ ولو حتى من طرف واحد)  وقال أيضا مؤكدا مخاوفه وهواجسه وهزائمه (إياك من المناهدة/ دى المخاوف سكتين/ والرحلة ع الفاضى/ بتفخت ألف عين واتنين/ مسلوبة عزايمك/ ع الأرض اللى حايدة/ بينى وبينك) فهل كان الشاعر يتنبأ بهزائمه الراسخة فى ديوانه الثانى، أم أنه كان يحصرها فى الأول ليصل فى الثانى إلى نتيجة مؤداها أن تبقت له هزيمتان ليصل إلى بر أمانه، أو بالأحرى بر انهزامه، ليسمّى ديوانه الثانى الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (هزيمتين وأوصل) ؟ لاحظ مثنّى المخاوف فى الأول، ومثنّى الهزائم فى الثانى، بما يجعلنا نتساءل بحماس عن لعبة اللاوعى . لعل بر انهزامه أولى، بدليل التصدير الذى اختاره من التراث الهندى، والذى يؤكد إحساسه الرازح بالغبن والانكسار والاضطهاد (موسم الأمطار، حمل لى الكثير من الأذى، أمطرت فى كل المدينة إلا منزلى) .
 
 
 
على مدار قصائد الديوان يؤسس الشاعر لحزنه الخاص، يفتح مملكة هزائمه الأثيرة، والتى يبدو جليا أن حصرها فى هزيمتين، لم يكن أكثر من مجاز أو سخرية  يغذيها شعور ثقيل باللامبالاة وباللاجدوى . وفى سبيل ذلك يخلط إبراهيم رفاعى بين المعنوى والحسّى، وبين العام والخاص، وبين الذاتى والموضوعى، للحد الذى يجعلك تحسبه شاعرا عفويا جدا، لا يقيم قصائده بتحريض مسبق من موقف أو وجهة نظر، غير أن ما تستطيع أن تضمنه له باطمئنان هو الانفعال الحقيقى، وأتصور أن ذلك كفيل بصنع قصيدة حيّة، ويمكن أن نستدل على ذلك باقتطاع سطور من الديوان بطريقة عشوائية :  (تانى هاسكت وأقول سكة القلب أقرب/ تانى هروح للحزن برجلى/ قاعد يرسم قلعة صاحبها أمير مهزوم من قبل ما يلعب/ روحى عبيطة جدا تقدر تضحك عليها بسهولة/ حتى الكون شكله اتبل عاوز أمى تعصره بعدين تنشره ع الحبل/ ولد محبوسة روحه فى ازازة/ ويجرجر قلبه فى كل الطرق/ عارف كويس ان قلوبنا لما بتفرح بتبقى مجرد مناورة/ ازاى لسه قادر يتحمل هجوم الناس بالجزم اللميع فوق روحه/ ليا باع طويل فى الحزن وف بيع الدنيا/ وقتها طبعا مش هيصدقوك وهتبقى متهم بالتآمر وبحاجات تانية ونزول النشيد الوطنى وواحد بيسألك انت ليه مبتحبش البلد دى ؟)
 
 
 
    تخلص إبراهيم رفاعى من الإرث القديم الباهظ لشعر العامية، على مستوى القاموس . هناك كم ضخم من المفردات – لا أقول الصور – لم يزل يستخدمه شعراء متحققون برغم نمطيته واستهلاكه وتكراره، دون مبرر مقنع اللهم إلا ضيق القاموس، وانغلاق الرؤى، وضحالة التجارب، أذكر منها على سبيل المثال (أتوضى بدمك/ قلبى الشراقى/ ضلك موال/ نيلك وريدى/ ادبحوا الضى البريء/ يا شمس قومى بثورة/ تطرح ف كل صباح ولاد وبنات) وغيرها مما هو إلى الزجل أقرب، مع أن من يستحضرون هذه التراكيب والدلالات شعراء يصفق لهم الكثيرون الآن، ولست أفهم على أى شيء ؟! .. كانت لدى الشاعر أمارات فى ديوانه الأول (قلب أراجوز) على نزوعه إلى الاختلاف، والتدقيق فى اختيار المفردة، وآلية تشكيل الصورة، لكنها تأكدت على نحو لا يحتمل الجدل فى ديوانه الذى نحن بصدده (هزيمتين وأوصل)، يرجع ذلك إلى موهبته الحقيقية، وتودده الى قصيدة النثر برغم الإيقاع الذى لا يخطئه الهاجس، وانفتاحه على الآخر، فإذا كان الآخر فى ديوانه الأول اقتصر على الأنثى فقط، فإنه فى الثانى كان الأنثى، والتاريخ/ الجد والأب، والوطن المستنيم، والوطن الثائر، والناس أجمعين أو كما قال (هيئة بنى آدم/ فاتح درعاته/ وحاضن بيها العالم/ بيدخن طول ماهو قاعد/ ابتسامات ناس ماشيين أو راكبين/ أو تايهين فى خريطة معروفة).
 
 
 
 ينجح رفاعى فى تصدير اندهاشه الى قارئه، ليروّض بدوره دهشته الخاصة/ هزيمته الخاصة.. ووسيلته الى ذلك مجموعة من الصور، المتناثرة فى ثنايا القصائد، جديدة، ومضيئة، برغم أنها لا تؤكد إلا معنى الهزيمة، ولا تغنى إلا للانكسار.. ولا يمكنك أن تتلمس منطقا لغويا محددا، أو نظرية بنائية ثابتة، يرتكن اليهما – أو الى أحدهما -  الشاعر فى تشكيل صوره، اللهم إلا حساسية خاصة باللغة، أقرب الى التعامل السيكولوجى معها، أو توظيف المفارقة أحيانا، أو لنقل بشكل بسيط ونهائى إنها العفوية التى توشك أن تستحيل فى تجربته الى نظريته الكبرى.  اقرأ معى (هاخش عليه ألاقيه فاكك كل زراير روحه وقاعد يرسم قلعة/ سجادة صلاة متعلقة ع الحيطة للزينة على شمالها صورة لجدى وهو نازل ضحك رغم انى فاكر ف حياته ما ضحكش غير كام مرة/ لو عايز تكبر بسرعة ممكن تقطع كام سنه م النتيجة ورا بعض وترميهم ع الأرض/ بس ساعتها تأكد أنها لحظة موت وان روحك طالعة تاخد للدنيا كادر من فوق/ تقدر تسأل البحر عن كل اللى عشقوا قبل كده اللى غرقوا واللى قبّوا والموج اللى فاضل له موته واحده ويدّى عافية لموجة أصغر من غير ما يبان عليه أى حزن/ قررت أبطّل أنزف حزن وأتبرع بالدم لعصافير روح الواد السخنة) انه يحكى المعنى بديلا عن الإخبار به، و يفتّت اللحظة بديلا عن تمريرها، ويسخر من هزائمه طول الوقت .
 
 
 
   بقى أن أشير الى أن بعض القصائد وقعت فى شرك الذهنية التى قد تضطرك للسؤال (أين الشعر هنا؟) مع تسليمنا بأننا لا نعرف مفهوما للشعر أصلا. وأظن أن ذلك من إفراز الرغبة الشديدة التى تملكت الشاعر فى الاختلاف، وعدم التماس مع تجارب الآخرين، للحد الذى أصابه بوسواس عطّلة أحيانا (لو أعرف انى هنقص بالشكل ده ما كنتش رحت ف النوم زى الملايكة كنت فضلت صاحى) أو يتورط فى مفارقة مبتذلة، لا تقول شيئا، ولا تنطوى على دهشة مثل قصيدة (بيتّريق علىّ)، اقرأ معى القصيدة القصيرة جدا  (غريب) يقول الشاعر (يا ولاد الحلال/ قولوا للموت/ انى غريب/ مش من هنا) هل توجد أية إضافة -  دلالية كانت أو جمالية - لكل التراث الكتابى قديمه وحديثه وبجميع ألوانه حققتها هذه المفردات القليلة، التى اختار لها الشاعر أن تكون قصيدة مستقلة ؟ لا أظن . مع ذلك تظل هذه ملاحظات قليلة، بل نادرة، لديوان تكوّن من 27 قصيدة، حفظت معظمها للشعر ألقه وبهجته، وللشاعر شغفه وأرقه وهزائمه، وللقارئ مشاركته واندهاشه.