الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

محمد جابر النبهان: الأدب العربى يحتاج لـ «ميدان تحرير» للتخلص من السلطة الأبوية




■ ماذا تعنى الغربة فى دفترك الخاص؟ وهل تخيلت يوما أن الاغتراب سيكون له محطة فى حياتك؟
 
- بعد كل هذه السنوات من العيش فيها مازلت أجهل حقيقةً معنى الغربة، كل ما كتبته فى ثلاثة مجاميع شكلت نصوص (بين مدينتين صغيرتين) ومجموعة رابعة تنشر قريبا، كل ذلك لم يجب على أسئلتى الداخلية عنها ولو بلمحة بسيطة. الإنسان ابن المكان الذى يسكنه، عندما كان يضيق هذا المكان بى وأضيق به أحمل حقيبتى وأبحث عن مكان آخر، هل فعلا «الحياة فى مكان آخر» يوجد فيها كل أنواع «الألعاب السحرية»؟ هذا هو الوهم الذى أنتج مجموعة كبيرة من تلك النصوص، لكنه خلق معنى آخر عن «الوطن» الذى هو وهم أكبر ومكان أكثر ضيقا. يضيق بك وتضيق به على السواء.
 
 ■ هل تحتوى أى مدينة قلب الشاعر وتسكن أوجاعه الكونية؟ أم هو من يحتوى المدن ويضمها تحت جناحيه؟
 
- الأوجاع الكونية كلمة فضفاضة، ووهم آخر. أنظرُ بأنانية شديدة لأوجاعى الداخلية. أنت لن تعجز فى النهاية عن الوصول إلى تقنيتك الخاصة فى التعامل مع ذاتيتك وألعاب اللغة. فيما مدينتك الحقيقية هى التى تسكنك وتسكنها، أما المدن الطارئة فهى أماكن قد تستغنى عنها أو تستغنى عنك حين ينتهى الزمن الافتراضى لكليكما فى وجود الآخر.
 
■ هل يتأثر الشاعر بالغربة إيجابا أم سلبا؟ وهل يشعر بالانسلاخ عن جذوره فى الغربة؟ وما مدى تأثيرها فى تكوين المفردة الشعرية فى قصائده ومحاور هذه القصائد؟
 
- لا يستطيع أحد أن يصادر الذاكرة والجذور. مهما حاولت أن تقتلع ذاتك ثمة حمض نووى يبقى منك فى مكان أول. هذا وجع بحد ذاته وإرث ثقيل أحاول أن أتحاشى تبعيتى له. فى هذه الجدلية بالذات يمكن أن توجد مفردتك الخاصة، أو البنية الخاصة فى النص. المساحات المفتوحة تحتاج إلى نص منعتق تماما من الأفكار الأولية البديهية حول مفهوم معين مثل الغربة والوطن والجذور ووهم البحث عن مكان يسع هموم الشاعر الكونية فى «مكان آخر». الواقع يا صديقى خارج هذه الأوهام الشعرية المجانية.
 
 ■ تقول فى إحدى قصائدك: (تفضحنى الغربة) .. هل هذا يعبر عنك؟
 
- ربما لأننى أعيش حياتى عارياً، أكتب تفاصيل هذه الغيابات، وأمارسها بنزق شديد. لا أعرف لأى مدى تهم القارئ أو تعنيه هذه التفاصيل، لكنها جزء من تركيبتى المعقدة فى الحياة/ حياتى التى تتشابك مع حياة الآخرين وتشتبك معها. نعم؛ تفضحنى فى الحياة أكثر من كونها تفضحنى فى النص.
 
 ■ برأيك.. هل هناك اغتراب بين المثقف والمجتمع حسب تصورك؟
 
إن كان ثمة اغتراب فبسبب المثقف الذى يعيش ويفكر وينتج بعيدا عن الناس وهمومهم وأوجاعهم وتفاصيل حياتهم الدقيقة والبسيطة فى مطالبها واحتياجاتها. هو يعيش فى هذا الفاصل الحدودى الطويل والموحش بينه وبينهم، لكن على الجانب الآخر، وفى تلك التركيبة المتعالية التنظيرية لحياة الناس، أبوى وناقد فاشل لم يستطع أن يتغلغل فى ثنايا النص، ودائما يلامس الشكل والقشور.
 
 ■ الملاحظ أنك تحاول أنسنة الأشياء وجلبها إلى حيز الكائنات المجسدة.. لماذا هذا التوجه؟
 
- أنت لا تستطيع أن تنفصل عن الأشياء التى حولك وتشكل تفاعلاتك اليومية وجوديا، الذين يستعيرون حيوات وعناصر الآخرين يفشلون حتما فى إيجاد أصواتهم الخاصة، لو تركت لذاتك متعة الإنصات للأشياء من حولك ستجد أنها تعبر عنك فى كل تردداتها. ثمة هذا التردد الفيزيائي؛ الفعل ورد الفعل، الصوت وارتداده عليك وبك وداخلك، لكن مسألة كيف تعبر عنها فهذا هو ما يميز تجربة عن أخرى، فالأشياء فى نص ليس هى ذاتها فى نص آخر لشاعر آخر، تماماً مثل تشبيهات اللغة واستعاراتها، لا تتشابه رغم أنها واحدة إنما تختلف أبعادها من نص لآخر.
 
■ البحر والنخيل لهما حضور قوى فى شعرك.. فهل تعتبر نفسك ابناً لهما؟
 
- يمكن وصفى بابن غير وفيّ شأنى معهما مثل شأنى مع كل آبائى (إن كان ثمة آباء). رغم عشقى للبحر وحضوره الكبير فى المخيلة والذاكرة والنص إلا أننى أتحاشى جدا أن يكون بيننا لقاء أو حوار أو عناق. لم أتعلم السباحة -بتعمد- ولم أفكر مرة أن أغطس بكلى فى البحر، كما لم أفكر مرة فى تسلق نخلة أو الاستناد على ساقها. ألم أقل لك أن النص يوهمنا بحياة أخرى فى مكان آخر.
 
 ■ هناك استدعاء للموروث الدينى فى قصائدك إلى درجة التناص.. إلى أى مدى يسهم هذا فى ثراء وتعميق قصيدتك الحداثية؟
 
- الموروث الدينى جزء من ثقافتنا العربية المدرسية، وأدات صناعة لغتنا. قد أكون استندت فى التجارب السابقة على هذا الإرث معرفيا ولغويا فى محاولات تبديل الحدث من أجل فكرة نص بصيغ جماعية، أعرف أننى تجاوزت هذه المرحلة رغم أهميتها وتشكيلها لاحقا لمعنى أكثر خصوصية وأوسع إنسانيا.
 
 ■ أخيراً.. كيف تتأمل ثورات الربيع العربى وتأثيرهما على حركة الإبداع العربى فى المستقبل؟
 
- يحتاج الأدب العربى اليوم إلى «ميدان تحرير»، وإن حاول فقهاؤه أن يركبوا الموجة. الشعر مثلا منذ أربعة عقود يشتغل على محرك الحداثة نفسه، وهو محرك معطوب يديره آباء ونجوم ونقاد سطحيون ومافيات وديكتاتوريون. الشعراء الأبويون -أيضاً- شعراء يبحثون عن أمجاد ضائعة بمحاولات تلقين المبتدئين فن كتابة الشعر من وجهة نظرهم الأبوية ومعطف حنانهم الفرو؛ هؤلاء الشعراء الذين لا يتأخرون لحظة عن دروس الوعظ والنحو والتقنيات، ثمة جيل جديد عليهم أن ينصتوا له، أن يتعلموا منه تقنياته وتمرده ولغته الجديدة وجنون دهشة قصائده دون إخضاعها لقوالب جاهزة وتنظيرات، وأن يلحقوا به. حركة النقد تأتى لاحقة لحركة الإبداع، وربما فى زمن آخر. كل مشكلة المبدع العربى أنه مازال مخدوعا بثرثرات النقاد وخياراتهم الضيقة والمنتقاة من دوائر أضيق، واقتباساتهم الغبية.