الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

هيستيريا جماعية ( 1 )





محمد حمدى روزاليوسف اليومية : 30 - 09 - 2009


خلال السنوات الثلاث الماضية تغير المجتمع المصري بشكل كبير، وأصبح السؤال المطروح هو: ماذا حدث للمصريين؟.. البعض حاول الإجابة من منظور اجتماعي، والبعض راجع الأوضاع الاقتصادية، لكنني أتوقف عند المزاج المصري العام.. ماذا حدث له؟.. وكيف أصبح يبني ثقافته بشكل سماعي، بما يشبه حالة هيستيريا جماعية تنتقل بين الناس بسرعة كبيرة جدا ودون أي محاولة للفهم.
نحن أمام حالة من الهيستريا الجماعية المبنية علي الثقافة الشفوية، لعب فيها الإعلام دور البطولة. ولم يكتف فقط بتغييب المصريين لكنه صنع نجوما مزيفين، ومنح الصوت العالي دور البطولة، وغيب المعايير الجادة والموضوعية في الحكم علي أي شيء.. وكل شيء.
مسرحية "قهوة سادة" علي سبيل المثال نجحت نجاحًا غير مسبوق علي نطاق المسرح، والتناول الإعلامي لها لدرجة أنه يوجد علي الانترنت 254 ألف مقال وموضوع وأجزاء من المسرحية.. بل المسرحية كاملة لمن يريد مشاهدتها أو تحميلها.
وقد أتيح لي أخيرا مشاهدة المسرحية علي قناة "القاهرة والناس" في إجازة العيد، في الوقت الذي ازدحمت فيه الشاشات بعدد غير قليل من المسرحيات الأخري منها "لعبة الست" لمحمد صبحي و "ع الرصيف" لجلال الشرقاوي.
وبمنتهي الصراحة والصدق لم أستطع تكملة "قهوة سادة"، فهي وفقا للمقاييس الفنية للمسرح لا ترتقي أبدا إلي درجة مسرحية، وتحفل بالكثير من الضجيج والصراخ والصوت العالي، إضافة إلي ثقل دم معظم الممثلين، لدرجة أن أياً منهم لم يستطع انتزاع أي ضحكة مني بينما كان المسرح يضج بالضحك.
في معظم ما كتبه النقاد والمتخصصون في المسرح قالوا إنها نوع من الكوميديا السوداء التي تعري المجتمع، والحقيقة أن ما خرجت به من مشاهدة تلك اللوحة الصراخية هو أنها تعري النقاد الفنيين، وكل من كتب وامتدح هذه المسرحية لأنهم جميعا سقطوا أسري الهيستيريا الجماعية، ولم يحكم أحد عقله وفقا لأسس النقد المسرحي، وحتي لم يسمح أحد لوجدانه بلحظة يتذوق فيها قبل أن يكتب.
وذكرتني حالة قهوة سادة بما دأب النقاد علي كتابته إشادة بأفلام الراحل يوسف شاهين، رغم أنه وبعد فيلم "المصير" لم يقدم عملا سينمائيا متكاملا بلغة السينما، وطبع شخصيته علي الممثلين فأصبحوا يتكلمون بسرعة مذهلة لا تجعل الناس تسمع ما يقولون بسبب تداخل الكلمات في بعضها.. لكن لم تتعرض أفلام يوسف شاهين للنقد ربما خشية الاتهام بالجهل بالفن الراقي!
من حسن حظي مشاهدة مسرحيات أخري في إجازة العيد، كما قلت، ورغم أنني شاهدتها من قبل عدة مرات، لكننا أمام مسرح حقيقي يراعي قواعد المسرح ويقدم فنا ومتعة ومضمونا.. فلعبة الست شاهدناها جميعا من قبل مسرحاً وسينما لكن حين أعاد محمد صبحي تقديمها تشعر وكأنك تشاهدها للمرة الأولي.. وهو مع أبطاله قادر علي انتزاع الضحك الحقيقي من القلوب.. وهو نفس الأمر الذي ينطبق علي مسرحية "ع الرصيف" مع سهير البابلي وأحمد بدير والراحل حسن عابدين.
والمقارنة البسيطة بين المسرحيتين و"قهوة سادة" تكشف أننا أمام حالة غير مسبوقة من "الهرتلة" وثقل الدم وغياب البناء المسرحي الحقيقي، ومع ذلك صنع منها الإعلام نموذجا أكثر من ناجح، وخلق حالة من الهيستيريا الجماعية أصبحت أهم ما يميز المصريين ويحركهم في كل شيء بعد أن غاب العقل تماما!
ونواصل غدا
[email protected]