الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أسعد الجبوري: قصيدة النثر تعاني من البكتيريا وشعوب الشرق الأوسط تساق إلي «أفران الغاز»







 
 
الشاعر والروائي أسعد الجبوري، احد الطيور العراقية الفارة من قمع النظام البعضي في سبعينيات القرن الماضي، يعيش من وقتها في الدنمارك، يكشف سبب تمسكه بكتابة الشعر في زمن الرواية، فرغم كتابته للرواية، فإن الشعر هو الأبرز في مسيرته، كما يتحدث عن قصيدة النثر ومهاجميها، بالإضافة لحديثه عن وضع الشعر علي خارطة الأدب العربي حاليا واختلاف دوره، كما يكشف عن رأيه في ثورات الربيع العربي وموقف الدول الأوروبية منها... في هذا الحوار:
 
 ■ لماذا كانت الهجرة إلي الدنمارك؟ وهل تعتبرها وطنا بديلا؟
- لم تكن هجرة بالمعني المتعارف عليه جغرافياً، بل كانت تهجيراً للروح والجسد علي حد سواء من الأقفاص والمعتقلات التي كان يمر بها العراق في السبعينيات وما فوق. كنت مضطراً لعبور الحدود لأسباب سياسية، فتم الانتقال من بلاد تموز الشمس إلي القطب. وهي في كل الأحوال تجربة هائلة امتدت لتشمل كل شيء يتعلق بحياتي.
■ بعد أعوام طويلة من الكتابة الشعرية والروائية مؤخراً .. كيف يمكن التعرف عليك في اللحظة الراهنة؟
- لا أعتقد أن عمر الشعر يمكن قياسه بساعة زمن فلكي، بقدر ما يمكن حساب زمن الشعر بساعة الشاعر البيولوجية وتداخلاتها المختلفة مع هذه الجبهة أو تلك.من هنا فالتعرف علي الشاعر يؤجل إلي حين التعرف علي نصوصه، القيمة الأصلية تكمن في كلماته لا في عمره الزمني ولا في سلالته، ومع ذلك يمكنني الإجابة بأنني شاعر مقطوع من شجرة غرائبية الجينات، بلا أب تماماً، بلا غابة، ولا ينتمي لجماعة جلجامش أو بريد السعادة العابرة.
■ كيف عبرت تضاريس اللغات والجغرافيا لكي تصنع نصك الإبداعي وإنسانيتك؟
- ما أن يسيطر الكاتب علي لغته، حتي يتمكن من اختراق الجغرافيات الأخري بأبعادها الحيوية، فالهوية الشعرية كما أعتقد، هي آخر ما يمكنني التفكير به، إنها لا تلزم المؤلف الخلاق، لأنها قفص يحجر علي الشعر ولا يخدم الشعرية بشيء، الشاعر كما أظن أكبر من أية هوية وأعظم من أي انتماء زمني أو مدرسي، سواء كان ذلك جغرافياً أم تاريخياً، لقد أسست نصي علي أن يكون مختلفاً بقدر ما من أجل أن يعيش في فضاء يملؤه الأكسجين، وليس  في مقبرة من الالتزامات التي عادة ما تقوم علي تعطيل أو إبطال مفعول الفلزات التي هي كون النص وتربته المتلهبة.
فالشعر مثل ريح عاتية لا يمكن الاحتفاظ بها في صندوق أو ذاكرة أو في كتاب، إنه طاقة تستمد قوتها من المخيلات المنتجة لا من الخيال الصحراوي البائس، لذا كلما يرتفع مستوي الضحالة أو الأمية في المجتمعات، يقل مفعول الشعر عند الناس، الشعر كائن يناضل من أجل أن يكون متطوراً علي الدوام، لذلك لا بد أن يلاقيه قارئ متطور أو بشر يسعون إلي تجاوز تعقيدات الجهل بمراحله المختلفة.
■ هل تعتبر كتابة القصيدة انتصاراً علي الخراب والخواء؟ أم مصالحة مؤقتة مع انكسار الذات والعالم؟
- أنا أري في الشعر مخلصاً يقي الناس من بعض ما يتعذبون فيه -ولو قليلاً-، فإنه بالمقابل يملك الريح التي تثير في النفس الآلام والجنون وغبار العواطف، لم يعد الشاعر كاتب خلاص عاطفي تنام نصوصه تحت وسائد المراهقات والمراهقين، الشعر، هذا الطاووس العملاق، نراه الآن وقد خرج من غرف النوم إلي المختبرات، صار يعمل في طبقات النفس العميقة، يهدم ويكنس ويؤسس ويطلق مخلوقاته من تيه إلي آخر، كل ذلك يقابل تيه الإنسان الذي هو بمجمل تكوينه مجهول مفتوح لا قرار له.
■ لماذا توصيف الشعر بالمتاهة؟ هو عند الآخرين خط تماس مع الواقع؟
- لا وجود لواقع واحد بعينه في النص الشعري كما أعتقد، الواقع بالنسبة للشاعر متعدد، شيزوفريني ولا يمكن رؤيته في حالة واحدة، لذلك تري علاقة الشعر بالوقائع الخارجة من مختلف الواقعيات، شعراً مضطرباً لا يتحكم فيه جزء دون آخر، الشاعر الناجح هو من يستطيع استثمار تلك الخلخلة وذلك الاضطراب لصالح مكونات الشعرية، لذلك يمكن القول بأن ترشيد متاهات الشعر في بواطن الشاعر وجغرافياته النفسية، خطأ فادح ولا يصح، نحن مع خيار أن يكون الشاعر لاعباً اكروباتيكياً من الطراز الرفيع، لأجل  تفادي الوقوع في أي فخ جنساني من فخاخ اللغة.
■ هل تري أن قصيدة النثر من جنس معين وواقعة ضمن هذا الإطار الذي تحدثت عنه؟
- قصيدة النثر من جنس خاص، كأنها تحمل في داخلها مفاعيل الذكورة والأنوثة معاً، لذلك واجهت إرهاباً قل نظيره من قبل المجموعات القبلية داخل اللغة وخارجها، الكل كان يحاول إزاحتها من الطريق، إن لم نقل محوها أو دفنها في مقابر المدارس!
■ كأنك تؤكد انتصار قصيدة النثر عند العرب؟
- بعد قرون طويلة من توازن الأعمدة الخليلية، لابد من تجاوز الجاهليات اللغوية عربياً وذلك بالتأسيس علي نموذج شعري حداثوي قابل لمواجهة عمليات تجهيل الذاكرة بفضاءات المعاصرة أو تغريبها عن الحداثة التي تواصل تحريك مختلف اللغات والآداب والفنون في العالم، من أجل السيطرة علي العقل العربي وتركه مستمراً بتقديم القرابين والأضاحي للبنيات السلفية في الأدب وأصوليات الأغلبية الكبري من الشعر العمودي الذي لم يعد يفهم إلا من خلال الاستعانة بالقواميس والمعاجم.
■ أنت مرتاح لوضع قصيدة النثر عربياً؟
- ليس إلي الحد الكبير، فقصيدة النثر وإن كانت كلية الأبعاد، فإنها تعاني من هجوم أنواع مختلفة من البكتريا المعادية لخلاياها ومناعتها، قد يكون ذلك من المسائل الطبيعية، فالنصوص المفتوحة حواضن للعديد من الأمراض، ولذلك أتجهت لقصيدة النانو، أولاً كبديل عن الهايكو الياباني بعقله الزراعي، وثانياً لأن شعر النانو يحد من وجود التفاصيل ويقتل السرد خشية وصوله إلي النص كمدمر.
■ ما رأيك في الغارات التي يشنها البعض علي قصيدة النثر من حين لآخر. خاصة بوصفها (قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء) كما قال عنها ذلك عبد المعطي حجازي؟
- هذا الكلام كان من الماضي، اليوم لا غارات ولا نقد، لقد بسطت قصيدة النثر سيطرتها علي كل الأرض وكل الورق وكل الذاكرة، لم يعد انتصرنا هامشياً أو ضمن حدود جغرافية معينة، لا أعرف كيف توصف قصيدة النثر بالخرساء، وهي التي التهمت ألسن الملائكة والشياطين؟
 عبد المعطي حجازي الذي يمثل كامل التصحر الشعري العربي،يوظف بقية طاقاته الخاملة كشرطي مرور علي مدخل قناة السويس الشعري في مصر. لسان قصيدة النثر العربية  كما نظن،منشارٌ أكل لغات الآخرين بالمفرد والجمع.
أحمد حجازي شرطي مسلكي متوحل يرغب بتحويل الشعر إلي ثكنة عسكرية يكون هو عريف الانضباط فيها ،خدمة للسلطة وأمراضه التي تعبر عن إصابته بالفراغ الوجودي عموما . هذا هو دوره في جمهورية مصر الآن ومن قبل .قتل كل مبدع شعري يعارض تاريخ  ما كتبه من شعر ينازعه الموت والقحط. 
لقد كان تفكير عبد المعطي حجازي وما زال إزاء الشعر الحديث وقصيدة النثر –حصرياً- تفكيراً مازوخياً مملاً يؤكد علي أن الفشل الشعري الذي يعاني منه هو شخصياُ، بات يشبه إلي حد عميق مرض الفشل الكلوي، فبين الفينة والأخري لابد لحجازي من أن يقوم بعملية غسيل لتنظيف بدنه من الملوثات والسموم الكيماوية وروث الأيام التي تخنق رأسه وتسد عليه منافذ الأكسجين.
■ أصدرت ثلاث عشرة ديوانا وأربع روايات .. لماذا الانحياز للشعر في زمن الرواية؟
- لا أعتقد بأن الرواية استولت علي زمن الشعر. فالثرثرة ولادة السرد والتفاصيل ،لم تتمكن من أن تزيح أو تمحو الشعر عن التراب العاطفي لبنية العرب، نحن أرضٌ شعرية قبل أن يزرعها الإنسان قمحاً ونخلاً، لذلك، فإذا كان للرواية بعض طموح بالسيطرة علي القارئ، فهي لا تذهب بالشعر إلي حلبات المصارعة، وتجري جولات من التقاتل هناك،لأنها خاسرة حتماً. أتعرف لماذا؟ لأن المخلوق العربي هو بالأصل مخلوق شعري بنمنمات تشكيلية لا حصر لها.
من هنا شبهتُ الرواية بالهاوية التي تمتلك قابلية ابتلاع كل شيء، فيما الشعر في جوهره، هو نبع لا يمكن غلقه أو ردمه، لأنه سيلفط كل ما يوضع عليه لخنقه أو إسكاته أو منه جريانه، لذلك أنا في هذا المكان: الشعر.
■ تقيم في الدنمارك منذ أكثر من ربع قرن .. ما المسافة التي تفصلك عن الثقافة العربية الآن؟
- لا شيء من القطيعة أبداً، نحن هنا نتمتع بتواصل شامل مع الثقافة العربية عبر شبكة الإنترنت، وربما يكون ذلك أفضل من أن تكون علي اتصال أو احتكاك مباشر مع الكتّاب والمؤلفين العرب.
■ كيف تري حضور الأدب العربي في الغرب؟
- ليس من حضور بالغ الأهمية للأدب العربي في أوروبا، الغالبية من كتابهم ينبهرون من حجم الترجمات التي تحصل عليها مؤلفاتهم حتي السخيفة منها، وهم استعلائيون في هذا الجانب، لأن دور النشر الأوروبية لا تترجم كتاباً أو رواية عربية، ما لم يكن وراء ذلك المؤلف فضيحة تنال من تاريح الأمة أو أحد رموزها، هم لا يؤمنون بإبداع عربي حداثوي، ما لم يكن مرتبطاً بعجلات الحداثة الغربية!
كيف تتأمل ثورات الربيع العربي وأنت تقيم في صقيع الدانمارك؟
لم تظهر لنا من الربيع إلا ثوران الدم وفورانه علي التراب، كأن المفروض أن يغيب العقل وتحضر السيوف في تأسيس المدن والأرواح، ما يجري في العالم العربي مرعب واشد خطورة من الاحتباس الحراري الذي تتغافل عنه الدول والمجموعات البشرية علي سطح الأرض.
■ كيف ينظر الغرب إلي هذه الثورات؟
- لم ينشغل الغربيون بحريات التعبير عند العرب ولا بحقوقهم ولا بدساتيرهم ولا بالديكتاتوريات التي ساهموا بدعمها، ولكنهم يدفعون اليوم بكل بلدان العالم العربي نحو الهاوية، من أجل رؤية كل تلك الأقطار أطلالاً نازفة، وكذلك لإدخال شعوب الشرق الأوسط إلي أفران الغاز، وفي مقدمة الدول الواجب إشعالها مصر وسوريا والعراق، باعتبار أن هذا الثلاثي يمثل الرأس والأحشاء والقدمين للجسد العربي المفترض العمل علي محوه خطوة خطوة.