الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

أسامة كمال يتنسم «المنسيين» فى «رائحة الغياب»




«هى محاولة لاستحضار الغيابمن فضاءاته، وتنسم عبقه الفاتن الكامن فى «المنسى» من الوجوه، والأماكن، والأساطير الإنسانية.. رحلتى مع «المنسيين» سحرية وقدرية» ... هكذا وصف الكاتب أسامة كمال كتابه «رائحة الغياب» الصادر عن دار «شرقيات»، الذى يبدأ أول فصوله بالكتابة عن «العم سعد» الذى التقاه فى تباشير الصباح الأولى قابضاً على كاميرته البدائية مُصراً على الحياة رافضاً الغياب، يذهب الكاتب فى وصف «العم سعد» المصور الذى يقف بكاميرته القديمة على رصيف الشوارع قائلا: جسده تهالك وروحه تكلست لكن عينيه ما زالت تومض بأيامها الغاربة، نسيت كل ما حولى وجالسته مشغوفاً لفض بكارة أيامه محاولاً «لملمة» ذكرياته قبل غرقها فى ماء أيامها البعيدة، ولملمت ذكرياته ومعها تفاصيل وعوالم ما يزيد عن قرن من الزمن.
 
وفى رحلاته التى جاب فيها الشوارع مرتحلا بين المدن للتعرف على المنسيين، قابل البعض منهم ووصفهم بأنهم «قابضون على الحياة بقلوبهم»، ويشير الكاتب إلى أن لقاءاته مع معظمهم كانت مصادفةً، وكأنهم يبحثون عنه مثلما يبحث وينقب عنهم، أو كأننا التقينا تحت سماء أخرى قبل لقائنا وجمعتنا ظلال من ذكريات.
 
عوالم «المنسى» فى الكتاب ليست واحدة لأن الغياب طبقات وصفحات من الزمن، ولكل زمن عطره ورائحته، ولكل عطر خصوصيته وخصائصه، ولكل زمن وجوهه وأماكنه وظلاله وأصواته وروائحه ومُفرداته، والزمن كالبحر ليس له شاطئ واحد، ومثله الغياب ليس له وجه واحد، الغياب متعدد بتعدد الغائبين .. ورائحة الغياب بيضاء بلون نقائها، ودائماً ما تتشكل فى فترة الطفولة لتسكن الروح وتُبلل القلب بصفائها حتى لحظة المغيب .. رائحة الغياب عطر يتجدد بتجدد حكاياته.
 
ويقص الكاتب كيف أنه بعد ضوء كاميرا «العم سعد» الغائب والواهن، بحث عن ضوء «الكُلوب» الساكن داخلنا كدليل طريق إلى معنى الحياة، ومن «الكلوباتى» إلى «العرضحالجى» الكاتب المصرى العتيد إلى «القارئ المُزمن» الذى لا تفوته جريدة يومية، ولا يغفل عن دورية أو مجلة أسبوعية.
 
ولم ينس الكاتب أن يرصد حالته النفسية وعلاقته الروحية بهؤلاء المنسيين ووصفها بأنها تحولت إلى «غواية» قائلا: ينقبون عنى مثلما أُنقب عنهم، ويضيئون بوجوههم سماء روحى المتوهجة بغيابهم الآسر والأثير.
 
ومن «المنسيين» مَنْ مر بالكاتب بغتة كفاصل من ضوء واهن، شخصيات تعيش وحيدة مع أحلامها المهدرة، هائمة بلا مأوى متنقلة بين أماكن متفرقة، ومنهم من وجده يجلس على الشاطئ مُنتظراً، والكل حوله يصلون إلى أحلامهم، ومنهم من كان يعرض الأحلام على الناس دون أن يصل إليها أو يقترب من شبقها الحميم، ومنهم من يقف خلف الفاترينات المضوية فى رحلتها من الظل إلى الضوء.
 
وبعد الحديث عن الوجوه، انتقل الكاتب للحديث عن الأماكن التى عاشت بوهج أصحابها، وتتلظى حالياً منسيةً فى غيابهم .. ذهبت إلى «طابية عرابى» وغادرتها، ولم يبق معى منها سوى البحر .. ونزعت نفسى من همومها، وسرت على قدمى من العتبة إلى الجامع الأزهر، إلى «بيت الست وسيلة»، الذى لم يبق منه سوى حكاية حجاب المحبة الأخضر الملفوف بمحبة زوجة صاحب البيت لزوجها عابراً زمنهما إلى زمننا.
 
وتتبع الكاتب سيرة «عصفور النار» فردينان دى لسبس، وزار «سينما الألدرادو»، وشاشة عرضها القابعة فى ظلام نسيانها، الظلام الذى غطى بُقعاً عديدة على امتداد بر مصر وبحرها، غطى تمثال الملك فؤاد (1968 – 1936) الذى يرقد وحيداً مهملاً فى أحد المخازن المهجورة بعيداً عن قاعدته الخالية، وغطى فيللا واستراحة الملك فاروق (1920 – 1965) الساكنة وحدها على نهر النيل فى قرية «كفر يوسف» فى محافظة دمياط.
 
ثم يعود الكاتب بذكرياته إلى أول يوم لامست قدماه فضاء جامعة القاهرة عام 1989، حيث الأحلام البريئة المجردة الخالية من ربكة التفاصيل .. وتعرفه إلى مقهى «زهرة البستان» الذى من يعرفه يظل قابعاً فيه، يناديه فى غيابه حتى يعود، وفى نومه حتى ينهض، وفى موته حتى يتنسم الجالسون رائحته بينهم وحولهم... والغائبون ليسوا فقط وجوهاً وأماكن، بل ظلال من المعانى.