الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
حتى لا ننسى !
كتب

حتى لا ننسى !




 

 
كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 09 - 10 - 2010



كان الإرهابيون ينطلقون في الشوارع مثل الذئاب المسعورة، وكان الوطن ينام في أحضان الخوف ويستيقظ علي أصوات الرصاص، وتحاول مصر أن تلملم جراحها بعد اغتيال الرئيس السادات في المنصة.
كانت أجزاء من سيناء الغالية مازالت تحت الاحتلال، وتماطل إسرائيل في إتمام الانسحاب منها، انتظاراً لمعرفة نوايا الحاكم الجديد.. وكان رموز المعارضة السياسية رهن الاعتقال في أحداث سبتمبر الشهيرة، التي جاءت علي خلفية الفتنة الطائفية في الزاوية الحمراء.
أما الدول العربية الشقيقة فقد أعلنت حرب المقاطعة علي مصر، ونقلت مقر الجامعة العربية إلي تونس، وأنشأت جبهة الصمود والتصدي، ليس من أجل إسرائيل، ولكن من أجل مصر والعمل علي تجويع شعبها.
لم يكن الاقتصاد المصري أسعد حالاً، ولعلنا لا ننسي الانفتاح الاستهلاكي الذي حول البلاد إلي سوق واسعة للشامبو واللبان والملابس القديمة المستهلكة، وامتدت الطوابير أمام المجمعات الاستهلاكية لمسافات طويلة للحصول علي زجاجة زيت أو كيس سكر أو دجاجة مجمدة.
كانت المرافق منهارة، المياه والصرف الصحي والكهرباء والتليفونات، وكأننا دولة تعيش في القرون الوسطي، بينما ملأت التخمة الدول البترولية الشقيقة التي استثمرت تضحيات ودماء الشهداء المصريين، لتصل بسعر برميل البترول إلي أرقام قياسية.
يبدو أن المخطط الذي كان مرسوماً هو أن تصبح مصر لبنانا جديدا، تضعفها الحروب الأهلية، وتعبث بها الفتن والصراعات، وتشتعل النار بين مسلميها وأقباطها، لتمزيق نسيج الأمة، والقضاء نهائياً علي الهدوء والاستقرار.
وبدأ الرئيس الجديد محمد حسني مبارك علي الفور عملية إنقاذ البلاد
هل نسينا الحرب الإعلامية الرهيبة ضد مصر وشعبها التي قادها صدام حسين ودول شقيقة أخري من أجل إسقاط «كامب ديفيد» وأن تظل رقبة مصر تحت مقصلة الحرب، فأعلنوا عليها الحرب لأنها اختارت السلام، وقطعوا عن بكرة أبيهم العلاقات الدبلوماسية إلا دولتين؟!
لم يفرط مبارك قيد أنملة في الكرامة الوطنية، وانتصر لكبرياء مصر وشموخها مؤكداً أنه إذا عاد العرب إلي مصر دون قيد أو شرط فأهلاً وسهلاً لأنهم هم الذين بادروا بقطع العلاقات، واستردت مصر مكانتها العربية، وعادت إلي أحضانها جامعة الدول العربية.. ولعل الذين يتحدثون عن ضعف دور مصر الآن يتذكرون تلك السنوات، وقبلها ظروف نكسة 67 التي ضربت دور مصر ومكانتها في مقتل.
كان مبارك حاسماً وقاطعاً منذ اللحظات الأولي لتوليه الحكم وقال لأحد المراسلين الأجانب: «لن نسمح لأحد بتوريط مصر في حرب لا تريدها».. ووضع مصلحة بلده وشعبه فوق كل شيء، واستكمل مسيرة السلام والانسحاب، دون أن يفرط في شبر واحد، وأوفي بعهده بألا يسمح لأحد بتوريط بلاده في حرب لا تريدها، رغم أن المنطقة كلها غارقة في حروب لا تريدها.
ظل كبيراً ومتعالياً علي الصغائر، ولم يرد البذاءات بمثلها، وإنما تسلح بأقصي درجات ضبط النفس والهدوء والتركيز، للعبور بوطنه إلي بر الأمان، وأثمرت هذه السياسة الحكيمة عن ردود أفعال إيجابية لدي الدول العربية العاقلة، التي بادرت بإعادة المياه إلي مجاريها مع مصر، فبها يقوي العرب وتشتد ذراعهم.
وبدأ مبارك علي الفور عملية إنقاذ الوطن
لم يتصور أكثر المتفائلين أن السيارة التي حملت المعتقلين في أحداث سبتمبر سوف تذهب بهم مباشرة إلي القصر الرئاسي، وأن مبارك في انتظارهم مُرحباً بهم ومحاولاً أن يزيل عن نفوسهم آثار مرارة الاعتقال، وقطع منذ تلك اللحظة علي نفسه عهداً لم يحد عنه وهو أن تكون الأحزاب الشرعية شريكاً في الحكم، وألا تمس الإجراءات الاستثنائية أي معارض.
تعرضت الدولة المصرية في السنوات الأخيرة لموجات متتالية من الهجوم وحروب التخوين والتشكيك، ووصلت إلي شخص الرئيس، لكنه التزم العهد الذي قطعه علي نفسه، ويشهد له أشد المعارضين شراسة أنه الزعيم الذي يحتوي الجميع تحت مظلة نظام الحكم، منحازاً للتسامح والصبر، مبتعداً عن الغضب والانفعال.
مازلت أتذكر الرئيس وهو يداعب فؤاد سراج الدين وهيكل وحلمي مراد ونوال السعداوي وفتحي رضوان ويقول لهم: «لا عودة للحديث عن الماضي والدخول في متاهات لا نهاية لها، علينا أن ننظر إلي الأمام وأن نفتح صفحة جديدة».. لم يصدقوا أنفسهم واختلطت الدموع بالابتسامات، فمن الزنزانة الرطبة المظلمة حيث القيود والسجان، إلي القصر الرئاسي.. الحرية والرئيس.
مازلت أتذكر سراج الدين وهو يقول للرئيس: «لأول مرة في التاريخ يستقبل الحاكم المخالفين له في الرأي، وأن نخرج من السجون إلي قصر الرئاسة».. وقال هيكل: «يكفينا المعني الكبير الذي يحمله هذا اللقاء»، وقال إبراهيم يونس: «بلادنا العظيمة تثق فيك وفي شجاعتك وصراحتك وفي أسلوبك الواضح».
وبدأ مبارك علي الفور الحرب ضد الإرهاب
مازلت أتذكر حتي الآن عناوين الصحف صباح يوم 7 أكتوبر «استشهد بطل الحرب في ذكري يوم النصر».. وتحتها صور السادات ومبارك وشيخ الأزهر الدكتور بيصار ورئيس مجلس الشوري صبحي عبدالحكيم ومساعد رئيس الجمهورية ممدوح سالم، والوزير العماني شبيب بن تيمور، وحولهم الكراسي المبعثرة وحالة من الفوضي والهلع، بعد اغتيال السادات في المنصة.
كانت خطة إجرامية لا تستهدف اغتيال السادات فقط، بل تفجير بحر الدماء في ربوع الوطن وتسليم رايته للإرهاب والإرهابيين، ولكن الله سبحانه وتعالي اختار لمصر حسني مبارك الطيار الشجاع المنتصر ليستكمل سلسلة الانتصارات، وتطهير مصر من البؤر الإرهابية، وإعادة الأمن والهدوء والاستقرار.
كانت ظروفاً بالغة الصعوبة، ومصر تحارب وحدها ضد عدو شرس يلقي الدعم من الدول الشقيقة والصديقة، وكانوا يتصورون أن الإرهاب ظاهرة مصرية، حتي أفاقوا حين اكتووا بالنار، ليؤمنوا بما كان يردده الرئيس دائماً بأن الإرهاب لا دين له ولا وطن، وأن الذين يساعدون الإرهاب سوف يشربون من نفس الكأس، وبالفعل شربوا من الكأس المُرة.
إذا كانت الذكري تنفع المؤمنين، فعلينا أن نتذكر سنوات سوداء عاشتها البلاد مشدودة الأعصاب، بينما الإرهابيون يقتلون الأبرياء ويهاجمون الأماكن السياحية والبنوك ومحلات الذهب، ويحاولون اغتيال كبار المسئولين والوزراء، حتي مدارس الأطفال لم تنج من جرائمهم، وبالصبر والنفس الطويل وتضحيات رجال الشرطة، استردت البلاد عافيتها وهدوءها.
معركة الرئيس الكبري هي التنمية
أبسط مثال هو التليفونات، ولم يكن في استطاعة مواطن في شبرا أن يتصل بغمرة أو روض الفرج، وكذلك المجاري حيث امتلأت الشوارع بقطع الحجارة التي يعبر عليها الناس إلي بيوتهم، ومياه الشرب التي لا تصل إلي الأدوار السفلي، والكهرباء التي تنقطع أكثر مما تعمل، والأتوبيسات التي تشبه علب السردين، وأزمات الإسكان الخانقة.. وكانت مصر بالفعل هي بلد الأزمات المتفاقمة.
المرافق تم إنشاؤها بالكامل، والذين يتحدثون الآن عن انقطاع المياه لبعض الوقت، يتناسون أنها لم تكن موجودة أصلاً، أما الإنجاز العظيم فكان المدن الجديدة وشبكة الطرق الهائلة التي امتدت كالشرايين التي تنقل الحياة إلي كل أرجاء البلاد.. وإنجازات أخري يصعب حصرها.
الخلاصة أن مصر التي تسلمها الرئيس ليست هي مصر الآن، دولة حديثة ومتعافية وتبذل قصاري جهدها لاستكمال خطط البناء والتنمية لسائر مواطنيها، مقارنة بدولة يائسة محبطة، أنهكتها الحروب واستنزفت مواردها، ولا مجال أبداً للمقارنة.
لعل الذين يشوهون الحاضر يعودون بذاكرتهم إلي الوراء، أو يعيدون فتح الأرشيف والصحف والتليفزيون، ليدركوا جيداً أن يوماً واحداً لم يضع هباءً، وإنما في العمل الشاق من أجل البناء والتنمية، ومنذ عهد محمد علي لم يبن حاكم آخر مثلما فعل حسني مبارك، مع الوضع في الاعتبار الزيادة السكانية الهائلة التي تأكل الأخضر واليابس وتحتاج جهودا خارقة لضبط انفلاتها.
استعادة دور مصر ومكانتها
مصر مازالت هي اللاعب الرئيسي في القضية الفلسطينية، وهي الدولة الإقليمية القادرة علي أن تكون وسيطاً عادلاً في مباحثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، واعترف العالم كله بقوة مصر ونفوذها في وقف الحرب الإسرائيلية الأخيرة في غزة، وتثبيت وقف إطلاق النار حتي الآن.
مصر لا تترك الفلسطينيين وحدهم في مواجهة إسرائيل، وتتصدي بقوة وحسم للمواقف الإسرائيلية التي تستهدف التهام الأراضي الفلسطينية واستمرار الاستيطان، وهي التي أجهضت عمليات التطبيع المجاني بين بعض الدول العربية وإسرائيل، واشترطت أن يكون التطبيع الكامل مقابل السلام الكامل.
ارتباط مصر بالقضية الفلسطينية ليس بحثاً عن دور أو مكانة ولكن لأن أمن مصر واستقرارها يبدأ من تأمين حدودها الشرقية، بجانب الالتزام التاريخي الذي يجعلها تحمل هذه القضية علي كتفيها، ولن تقبل أبداً التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني التي هي حقوق العرب جميعاً.
مبارك هو الذي يجسد هذه المعاني الكبيرة، وتحمل في صبر وصمت تجاوزات كثيرة، من الطامعين في احتلال دور مصر، دون أن يعلموا أن الأدوار لا تباع ولا تشتري، وإنما تحصل عليها الدول بفعل مكانتها وتأثيرها ونفوذها وقدرتها علي التعامل مع مختلف الأحداث.
الأدوار ليست استعراض عضلات
الأدوار ليست توابيت لدفن الجثث، وما كان ينفع في الستينيات قد يجلب علي الأمة الكوارث والنكبات الآن، والنموذج هو صدام حسين الذي أراد أن يلعب دوراً بنفس المفردات القديمة، فجلب علي بلده الاستعمار، وأنهي حياته علي حبل المشنقة.
الأدوار ليست فتونة أو استعراض عضلات، ولكنها تعاطٍ هادئ ودقيق مع المتغيرات التي يشهدها العالم، والحفاظ علي استقلال الدولة ونفوذها وتأثيرها.. وهذا ما يرسخ معالمه الرئيس مبارك الذي لا تغريه زعامة تهدد وطنه، ولا تدغدغ مشاعره شعارات وهتافات تجعله ينساق وراء سياسات لا تحقق مصالح بلده.
الزعامة الوحيدة التي يبحث عنها مبارك هي تحقيق أمن واستقرار المواطن المصري وحل مشاكله، وتوفير حياة كريمة لأبناء الشعب، من خلال خطط تنمية طموحة تساعد البلاد في الوقوف علي أرضية صلبة، في ظل أزمات اقتصادية عاتية تجتاح العالم.
كان بمقدور الرئيس أن يتخذ مواقف عنترية، تجعل الجماهير تصرخ وتحتشد، دون إدراك للعواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب علي الجري وراء الحماس والشعارات، وأفلت الرئيس من هذه المصيدة، وبني دعائم زعامته علي الارتباط الوثيق بتحقيق مصالح شعبه ومواطنيه.
الطريق إلي المستقبل
ببرامج وإصلاحات سياسية واقتصادية مستوحاة من واقع التحديات والمشاكل الحقيقية التي تمر بها البلاد، وتجسد البرامج الرئاسية هذا الطموح الذي يستهدف مستقبلاً أكثر طمأنينة وتقدماً للأجيال القادمة، ويمضي في تنفيذ هذه البرامج بمعدلات أكبر من المستهدف، لتخلق في نفوس الشباب الأمل والإقدام علي الحياة، في مواجهة لوبي التشاؤم والإحباط، الذي يضع ظلالاً قاتمة علي كل ما يتم إنجازه.
الطريق إلي المستقبل ليس مجرد شعار، ولكنه يأخذ طريقه إلي النور بتمكين الأجيال الشابة من احتلال مواقعها التي تستحقها علي خريطة الوطن، فالتغيير هو سنة الحياة، لكنه التغيير الذي يعتمد علي التواصل وليس التنافر، وعلي مد الجسور بين مختلف الأجيال والطاقات وليس قطعها.
الذين ينادون بالتغيير يتناسون أن مصر تغيرت بالفعل، فشتان - مثلاً- بين مصر عام 2000 ومصر الآن، وشتان بين مصر التي تسلمها الرئيس مجروحة وتئن وتعاني من كل أعراض الانهيار.. وبين مصر الواثقة التي تبذل قصاري جهدها لتعويض سنوات الحروب والآلام والضياع.
الملخص هو: إلي الذين يريدون معرفة ماذا قدم مبارك لمصر في السنوات الماضية، عليهم أن يعودوا إلي «محضر استلام الوطن» حين تولي الرئيس مبارك الحكم.. المشكلة أن ذاكرتنا ضعيفة وقابلة للاختراق والتشكيك.


كرم جبر