الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

بشير عياد: الشهر الكريم بين رائحة الذكريات وغبار الواقع




كانت طفولتى فى فترة الستينيات من القرن العشرين، فى ريف كفر الدوّار (محافظة البحيرة)، وكان الشهر الكريم يحلّ فى فصل الشتاء، وما أقسى شتاءنا فى الوجهِ البحريّ خصوصا فى الريف، إلا أنّ رياح الشتاء كانت تحوّل القرية إلى كتلة من الروائح المتعانقة إذ كانت جميع الأفران الريفية تعمل من ظهيرة اليوم، ووقودها الشتائى يكون من قشّ الأرز، فنجد الدخان الكثيف يخرج من كل البيوت محمّلا بروائح ما فى الفرن من الأرز المدسوس ومعه من الطيّبات ما لا حصر له، وعلى هذه الروائح نجلس لنستمع إلى قرآن المغرب، ومع انطلاق المدفع تلتف الأسرة حول المائدة وهى (الطبلية التقليدية)، وقبيل صلاة العشاء يهرع الجميع إلى مسجد القرية، وبعد صلاة التراويح نعود إلى المنزل لنواصل السهر مع الراديو الذى لم يكن يذيع حرفا واحدا هابطا أو خادشا أو بلا قيمة، وكان السحور يأتى بطيئا فى أعماق الليل، وكنت أتسحّر ولا أصوم فقد صمت كبيرا (أواخر الإعدادية أو أوائل الثانوية)، وأذكر أن أهم ما كان يشغل طفولتى هو أن أكتب دعاء الإفطار لإذاعة «الشرق الأوسط»، هذا الحلم هو الأساس الذى أشعل موهبتى الشعرية وقادنى إليها، ولذلك بكيت كثيرا عند أول تسجيل لنا فى هذه التجربة التى تعددت مع المطربين الكبار -حسب ترتيب العمل- محمد ثروت ومحمد الحلو وهانى شاكر وعلى الحجّار.
 
فى طفولتى كنت أدمن الاستماع إلى الراديو، وأقرأ فى مصحفى وفى كتب الأعمام الذين سبقونا إلى الجامعة (لم يكن لدينا مكتبة)، أما الآن فدخلنا فى زحام العمل أو زحام الزحام، وقادتنا الأيام إلى ما نعانيه وما اختطف منا بهجة الشهر الكريم، ولولا ضحكات أطفالى التى توقظ إحساسى بأبى وأمى يرحمهما الله، ولولا قرآن المغرب وقرآن الفجر اللذان صاحبانى من الطفولة ما انتبهت للشهر الكريم وروعته، وفى غبار الأحداث أو غمارها أتابع الصحف على تنوعها مع بعض الفضائيات الإخبارية، ولا أقرأ أية كتب سوى القرآن الكريم، وأسعد لحظاتى وأنا أعيد تحفيظ أطفالى والاستماع إليهم، وأشعر بالرضا التام وبأن ذلك فضلٌ من الله ونعمة، وأسترق الوقت لأستمع إلى أعمالى المذاعة، لأدرك أننى ما زلت على قيد الحياة.