الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

برهان شاوى: «الربيع العربى» تسبب فى تصعيد التوتر الطائفى بين شعوب المنطقة





 
 
برهان شاوى المبدع العراقى الذى جمع بين الشعر والرواية والترجمة والإخراج المسرحى والسينمائى والعمل الأكاديمى، لا يرى فى تنوع الإبداع تشظيا أو تشتتا للفكر وإنما يرى سر ذلك يكمن فى كثافة القول الجمالى وطرائق التعبير المتعددة عنه، مولع بالأساطير والكتابة عن المتاهات، ولم لا وهو يؤمن أنه ابن حضارة أسطورية تمتد أسطوريتها للحاضر، عن العراق واضطراره للابتعاد عنها وما يدور فى العالم العربى من أحداث تغير وجهه دار هذا الحوار.
 
 
 
لماذا كانت الهجرة من العراق قبيل نهاية سبعينيات القرن الماضى؟
غادرتُ العراق مشياً على الأقدام إلى سوريا ومنها إلى بيروت فى العام 1979 هارباً من الوضع السياسى فى العراق، بسبب معارضتى للنظام ورفضى الانتماء للحزب الحاكم، ولميولى الفكرية والسياسية اليسارية. كنتُ قد أُعتقلت وعُذبت بشدة، غير أنى لم أكن استثناء، فحالى كان حال المئات من الأدباء والفنانين العراقيين.
تجمع بين الشعر والرواية والترجمة والإخراج المسرحى والسينمائى والعمل الأكاديمى.. كيف توفق بين هذه الفنون المختلفة؟
لكل جنس أدبى أو فنى أو حتى أكاديمى خصائصه وتقنياته وآليات التعبير فيه. بالنسبة لي، أنا أتوجه إلى تلك الأجناس الفنية والأدبية بروح الشاعر التى فى أعماقي، مع التزامى بتقنيات وآليات ذلك الجنس الذى أعتكف عليه فى لحظة الإبداع. لكن قل ما كنت أمارس كل هذه الفنون فى آن واحد، فلكل فترة إنشغالاتها الفنية والإبداعية. هناك بعض الأجناس التى أتوجه لها بنفسي، وأخرى أنتظرها. أنا لا أذهب إلى القصيدة كما كنت فى بداية حياتى الأدبية، إذ صرت الآن أنتظرها، لا أقصر نفسى على كتابة الشعر ما لم أسمع صليل الجرس كى أتوغل خلفه إلى الغابة. مع الرواية يختلف الأمر، إذ أجدنى مكتظا بالأشباح والرؤى والأصوات التى تدفعنى إلى التخلص منها عبر جحيم السرد الروائي. الترجمة بالنسبة لى هى إعادة اكتشاف الذات من خلال النص الآخر.
أما تجربتى فى المسرح والسينما فقد كانت قصيرة، تحكمت فيها ظروف شخصية أعاقت التواصل فيها، ربما بحكم طبيعتها الجماعية وجوانبها الاقتصادية، بالرغم من صدور كتابين لى فى السينما هما: سحر السينما، وجماليات اللغة السينمائية.
برأيك هذا التنوع ثراء أم تشظي؟
البعض يفسر الأمر على أنه تشظي، بل ويذهب البعض إلى أن الفشل الإبداعى هو سر هذا التنوع، فالشاعر الذى يفشل فى الشعر يتجه إلى جنس أدبى أو فنى آخر ليجرب «حظه» فيه. شخصياً لا أرى ذلك.. أنا أعتقد أن سر ذلك يكمن فى كثافة القول الجمالى وطرائق التعبير المتعددة عنه، فإذا كان الشعر يفترض الاقتصاد والكثافة اللغوية، فأن الرواية تفترض الفيض اللغوي. ليست مقولة النفرى بأنه كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة صحيحة بالمطلق، فهى تنطبق على الشعر أكثر وقول الحكمة وشذرات التأمل أكثر مما تنطبق على غيرها من فنون القول، فالرواية مثلاً تفترض الفيض اللغوي، أى كلما اتسعت الرؤيا فاضت اللغة وانساب الكلام.
الأسطورة حاضرة فى متونك الشعرية.. لماذا؟
الأسطورة، أو بدقة أكبر: الفكر الاسطوري، هو الذى قاد سابقاً يقود حالياً الحضارة البشرية، فحتى فى عصرنا التقنى هذا نعيش العديد من الأساطير العلمية عن عوالم المجرات وحركتها، والثقوب السوداء، والعوالم الموازية، وغير ذلك. ليست الأسطورة وإنما الفضاء الاسطورى حاضر فى شعرى وبشكل واضح، لاسيما فى ما اسميّه التجربة السومرية، أى كتبى الشعرية الأربعة: ضوء أسود، تراب الشمس، رماد القمر، وشموع للسيدة السومرية. أنا لا أعتمد على أسطورة بعينها، ولا أتخذ من الأسطورة قناعاً شعرياً وإنما أتماهى فيها وأتخذ منها فضاء ينذلق فيه القول الشعرى بكل ألوانه واستعاراته الجمالية. ولا تنس نحن أحفاد حضارات اسطورية. إنها الجذور التى نتشبث بها كلما عصفت بنا وبأوطاننا رياح مسمومة تحاول اقتلاعنا.
 لماذا الولع بالمتاهات فى رواياتك: «متاهة آدم، متاهة حواء»؟
الحياة نفسها متاهة.. بل الكون كله متاهة من الألغاز والغموض، والنفس البشرية متاهة المتاهات. لقد حاولت فى ثلاثية المتاهة: متاهة آدم، متاهة حواء، ومتاهة قابيل، أن أبحث فى أسئلة الوجود البشرى ومصير الإنسان، عبر حكايات متداخلة، ومن خلال التوغل فى متاهة الكتابة والسرد الروائي، حيث تبدأ الثلاثية برواية «متاهة آدم»، وتروى قصة كاتب اسمه آدم البغدادى الذى كتب رواية اسمها «متاهة آدم أو المرأة المجهولة» عن كاتب اسمه آدم التائه، الذى هو بدوره يكتب رواية اسمها «المرأة المجهولة أو متاهة آدم» عن كاتب اسمه آدم المطرود يحاول أن يكتب رواية عن شاعر اسمه «آدم العندليب» لكن يُعدم قبل أن ينتهى من كتابة روايته.. وهكذا تتناسل الروايات ويتناسل الأبطال.. لكن البطل آدم البغدادى يُقتل فى نهاية الرواية، بينما تبدأ «متاهة حواء» بوصول «آدم الزاهد» وهو صديق للكاتب القتيل، فيأخذ بطريقة ما مخطوطات القتيل، ويبدأ رحلته معها، حيث يقرأ مخطوطة «متاهة حواء» التى فيها تتبع لمصير حواء المؤمن زوجة الكاتب آدم التائه فى رواية «متاهة آدم»، بينما فى رواية «متاهة قابيل» ثمة تتبع لمصير آدم التائه نفسه. الآن أنا على وشك الإنتهاء من روايتى الجديدة «متاهة الأشباح» أو «أشباح السيدة حواء صحراوي».
بالمناسبة إن جميع أبطالى وشخصياتى الرجالية يحملون اسم «آدم»، وجميع بطلاتى وشخصياتى النسائية تحمل اسم «حواء» أو «إيفا» إذا كانت المرأة أجنبية، بل حتى فى روايتى التى سبقت ثلاثية المتاهات، وأقصد هنا روايتى «مشرحة بغداد».
هل بغداد تخلت عنك أم أنك تخليت عنها؟
لم تتخل بغداد عنى ولم أتخل عنها. هربت منها فى نهاية السبعينيات للحفاظ على حياتي، وغادرتها فى نهاية 2011 حفاظاً على حياتى أيضاً، فلقد تعرضت إلى ما يكفى من التهديدات. أستذكر هنا بيتاً للراحل الجميل محمود درويش حين يقول: نحن فى حل من التذكار فالكرمل فينا.. نعم..أنا أحمل بغداد معي. وإذا خربت فأنى اتجهتُ سأجد العالم مخرباً كما يقول كفافيس.
 التنقل ما بين بغداد وروسيا وألمانيا والإمارات .. هذا التنقل ماذا أفادك؟
ربما تنطبق أبيات الإمام الشافعى عن فوائد السفر فى كل زمان ومكان. فالتنقل بين البلدان والشعوب والثقافات حفر فى أعماقى بقوة، ووسع من أفقى الداخلي، ومداركي، وتجربتى مع الناس والعالم والثقافات واللغات، ومنحنى مناعة ضد التعصب، أى كان شكله، وعمق رؤيتى وعزز من موقفى فى تقبل الآخر مهما كان مختلفاً عني. نحن فى النهاية أخوة فى الإنسانية.
كيف تتأمل الربيع العربى بعيون المبدع وتأثيره على الإبداع العربى فى المستقبل؟
أنا حذر جداً فى التعامل مع المصطلحات الإعلامية. ففى ما يسمى بالربيع العربي، وهو مصطلح عاطفي، يتسم بالرومانسية، وهو من نتاج الماكنة الإعلامية وليس من استنطاقات الفكر الفلسفى أو الوعى التاريخى والتأمل السياسي، ولم أجد فيه سوى اندفاعات تاريخية قوية كانت وليدة حصار اجتماعى وفكرى لعقود بل لقرون من الزمان، أو كما يسميها أحد المفكرين بالإنسداد التاريخي. وكنت أعتقد، وما زلت، بأن هذه الإندفاعات لا تؤدى بالضرورة إلى أفق حر، ربما ستحطم السدود والموانع، لكنها بإنجرافها ربما ستنحرف إلى قنوات أخرى، بل ربما ستقود الناس من إستبداد إلى استبداد آخر، وهذا ما جرى فى مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 ، بيد أن الاستثناء الوحيد فى حركات ما سُمى بالربيع العربى هو انتفاضة الشعب المصرى الجبارة فى 30 يونيو 2013 والتى وجدتُ فيها بداية حقيقية لما قد يكون ربيعاً.. ولولا انتفاضة الشعب المصرى العظيمة فى 30 يونيو لكان بالإمكان الحكم عن هذه الإندفاعات التاريخية الهائلة التى حدثت فى تونس ومصر وليبيا بأنها خريف عربي. أعتقد أن انتفاضة الشعب المصرى الهائلة فى 30 يونيو ستلهم الجميع، أفراداً وشعوباً، وستلهم المبدعين والمفكرين، مثلما ستلهم الكثير من الشعوب غير العربية أيضاً.
هل أثر الربيع العربى بالسلب على القضية العراقية أم دعمها؟
ما يُسمى بالربيع العربى أثر على الشعب العراقى من خلال تصعيد التوتر الطائفى بين شعوب المنطقة الذى برز أكثر مما كان عليه قبل ذلك. أما إذا كنا نتحدث عن التغيير السياسى فإن العراقيين ناضلوا عشرات السنين من أجل تغيير واقعهم السياسي، لكن التغيير الذى حصل كان قاسيا ومهولاً، إذ كان ثمنه احتلال العراق من قبل الأمريكان وحلفائهم، وهؤلاء هم الذين جاءوا بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم، ومارسوا الطائفية فى العراق، وحاصروا أى توجه علمانى أو ليبرالى للعراق. ويبدو أن خطة الأمريكان اتضحت فيما بعد من خلال تسليم الحكم إلى الإسلاميين فى عدد من البلدان العربية، إلا أن انتفاضة الشعب المصرى الأخيرة، خلخلت الحسابات كلها. إن انتفاضة 30 يونيو لشعب مصر العظيمة دعمت نفسياً كل الشعوب المتطلعة للحرية للحياة الكريمة، وأعادت ثقة الشعوب فى نفسها. لقد دبت الحياة مجدداً فى أحلامنا التى تحطمت خلال ليل الاستبداد العربى.