الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

إبداع




رسوم: هبة عانيت
د. يسرى عبدالله يكتب:  أصوات واعدة فى القصة المصرية
 
هنا فى هذه المساحة نقدم ثلاثة من الكتاب الجدد، المعبرين عن نفس جديد فى القصة المصرية، ورؤية مختلفة للعالم، والذى يحمل كل منهم تصورا مغايرا عن الحياة والأشياء، وبما يرتب فى نصوصهم موقفا مختلفا من الواقع بتفاصيله، وتعقداته، وتشابكاته المتعددة، وبما يعنى أن ثمة حراكا أدبيا يتشكل فى رحم الإبداع المصرى ويتخلق على مهل، يضاف إلى جملة من المبدعين الجدد الذين تذخر بهم الحياة الثقافية المصرية الولود والمتجددة فى آن. وفى روزاليوسف المكان الطليعى ربما يحسن دوما تقديم أصوات جديدة، تستحق الحضور، وتستوجب الاهتمام.  هنا يبدو القاص عمرو خيرى مفعما بروح التغيير فى نصه»ضحك طليق كالغزلان»، مازجا الجمالى بالسياسي، فيخلق نصه على مهل، ويكتب لغته الجديدة بنت الحياة اليومية، وبنت المرويات الشفاهية، والمحكيات، ولذا تبدو ديناميكية متحررة من أسر البلاغة العتيقة، والزخارف اللفظية الباهتة، التى تعطل السرد ولا تنميه، ومثل لغته يتحرك عمرو خيرى فى نصه المسكون بأفق غير مشروط للحرية، ويجدل من ذلك كله كتابة طليعية تخلق انحيازها الأيديولوجى محدد العالم، بلا زعيق وبلا مواربة أيضا، ويبدو فرح المصريين بثورتهم/ حريتهم ضحكا طليقا كالغزلان، فيستخدم فى العنوان الدال مؤشرا على الحرية مفردة «الغزلان، وتوصيف يحيل إليها: «طليق»، ومصدر يفتح أفق الدلالة واسع «اضحك»، ويتسربل النص موجزا، مكثفا، مفجرا لطاقات متعددة من المعنى تنشد الحرية، وتدين القمع والاستبداد.  عمروخيرى - المترجم الموهوب - إذن يتقدم بثبات نأمله، ونراهن عليه، فى مشهد القصة المصرية الجديدة، ليصبح أحد رهاناتها الحقيقية فى المستقبل القريب، خاصة إذا استمر حاملا هم ناسه، وساعيا فى الآن نفسه للتطوير الدائم لأدواته الفنية، والتقنية.
من نسل الحياة اليومية أيضا وزخمها وواقعيتها الصرف يخرج القاص شريف تمام معنيا أكثر بالسخرية من العالم، والتندر عليه، وكشف التناقض الاجتماعى الفادح فى مجتمعاتنا المغلقة عبر حديقة للعشاق يختلسون فيها لحظات من المتعة المهددة بأفراد أمن يمارسون لعبة التواطؤ بالصمت مدفوع الأجر، فى صورة رشوة مادية أو جنسية وفى تعرية للمسكوت عنه فى الواقع السياسى والاجتماعي، بحيث يبدو «التظبيط»  ذا وجهين: حسى مباشر، ومؤشر معنوى على حالة التواطؤ، ويبدو النص القصصى هنا مقتطعا من عالم فسيح ربما يخرج فى إطار سردى مغاير. على شريف تمام فقط أن يمارس قدرا أكبر من التحرر فى التعاطى مع اللغة الأدبية المستخدمة، حتى لا يقع فى فخ الارتباك اللغوي.
 تبدو القاصة غادة فايق فى نصها «كيس برتقال» معنية بالحكاية أكثر، متلمسة من ورائها عناصر الخلل الموجودة فى المجتمع فى صيغة فنية أقرب للواقعية النقدية، طارحة حالا من المماثلة والتوازى بين الموظف التعيس الذى غلبته همومه الحياتية، والبرتقال المعتصر تحت عجلات السيارة المسرعة؟، فكلاهما يتعرضان للمحو، وكلاهما ينز ألما، وتبدو الرشوة قناعا فنيا لعالم يحفل باهتزاز المعنى، ومن ثم فليس من سبيل لمقاومة قبحه سوى التمجيد لكل المقولات الكبرى، بنزاهتها، ونبلها الخاص، وعلى القاصة أن تحرر لغتها الإبداعية أكثر لتصل إلى سيكولوجية القاريء بشكل أكثر نفاذا وديناميكية، وحتى لا تعيد اجترار اللغة القديمة، كما أن عليها أن تستلهم من خبرات الحياة وشغبها المستمر أفقا أوسع للنصوص المقبلة.
 

 
 
ضحك طليق كالغزلان
 
 
الولد ابن الناس المستورين ركب العجلة وقرر أن يذهب إلى التحرير. طلع من بيتهم فى كوبرى الخشب، طلع سلم المشاة فوق شريط القطار والعجلة بين يديه، طلع ونزل، تسلل من بين البائعين والمشترين المرتعشين وخرج إلى موقف الميكروباص، ركب العجلة وانطلق فى شارع التحرير فى طريقه إلى الميدان. أمه كانت تشتكى من وقف الحال وقلة أدب الشباب، وأبوه صامت لا ينطق، خائف وحزين لا يُعزى، وهو يحب ركوب العجلة ساعة العصر. ارتدى مخصوص لهذه الرحلة الطويلة الكوتشى الأبيض والسويتر الأسود الذى يطير وراءه عندما يجرى بالعجلة كالريح، ولم يقل لأخوته وأولاد الجيران الذين يلعب معهم أنه خارج بالعجلة وحده إلى ميدان التحرير.
مشاهد التليفزيون من يوم موقعة الجمل ذكرته بفيلم الأرض.. الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا.. وذكرته بأفلام سبايدرمان وباتمان وهارى بوتر، أصبح يعرف أن الناس فى التحرير طيبون وأن «البلطجية» أشرار، يرمون الطيبين بالنار والرصاص، رأى النار ولم ير الرصاص لكن لابد أن كان معهم رصاص، فالأشرار دائماً يطلقون الرصاص فى الأفلام على الطيبين، لكن لم يفهم لماذا لم يرد الطيبون بالرصاص كما فى الأفلام، ولا كيف هزموا الأشرار بدون ضرب وطيخ وطاخ وطش كما يفعل سبايدرمان.
الطريق إلى التحرير طويل، العرق – رغم الشتاء – ينهمر على حاجبيه ويتسلل إلى أنفه وفمه مذاقه ملح  ساخن كالدموع. يخاف من نظرات الناس إليه عند ميدان الدقي، من عبور الميدان تحت الكوبري، هو ارتدى الكوتشى الأبيض مخصوص لأنه يشعر بالحرج من المشى بالشبشب خارج كوبرى الخشب، عند الناس النضيفة، الناس عيونهم وكأنهم يعرفون أنه ذاهب إلى التحرير، وأمى لو عرفت هتموتني، لكن لا أحد منهم يعرفها، وهو متأكد أن لا أصدقاء ولا أقارب لهم يعيشون فى شارع التحرير ليرونه من البلكونات.. أمه أخذته مرتين إلى السوبر ماركت فى الدقى وكان يرتدى الشبشب وكان يشعر بحرج بالغ وسط الناس النضيفة، كان لابد يا أمى أن أعرف أننا ذاهبون إلى هناك لأرتدى الكوتشى الأبيض، وأبوه منعه من النزول فى «اللجنة الشعبية» «عشان الكلام ده مش للعيال، خليك مع أمك هنا وأخواتك» ونزل أبوه وعلى كتفه عصا مقشة ربطت له أمه فى طرفها سكين المطبخ الكبير، فأصبحت حربة كتلك التى يصطاد بها البدائيون السمك. ولم يدعه أبوه يلمسها، وكان يخبيء «سلاحه» كلما عاد من الشارع قرب الفجر.. لكن الآن انتهى موضوع اللجنة الشعبية، وكفى ضرب النار على سبيل التحية بين اللجان، وكفى الجرى على النواصى «حرامى هنا.. حرامى هناك»، وهو بعد مشهد الجمال والخيول فى التليفزيون بكى كثيراً وأحس أن أباه لن يحميه وأن الموت يأتى هكذا، سيموت كل الناس. سيموت كل الناس.
يعرف أن بينه وبين التحرير الآن كوبرى على النيل، ثم كوبرى آخر على النيل، يرى من بعيد طيارة ورق عليها ألوان علم مصر.. فى الصباح التالى على المعركة صحا من النوم ليجد أمه أمام التليفزيون منكوشة الشعر تتفرج، ومشهد رمادى كالحلم، فيه الطيبون والأشرار ما زالوا على حالهم، والطيبون تمترسوا وراء جدران من صفيح وحديد وخشب، فرح، ارتاح، لن يموت الناس، لن يموت الناس.. بعد الكوبرى الأول اقتربت منه الطيارة الورق، سمع هتافاً من بعيد، وناس من حوله فى طريقهم إلى التحرير، عائلات، آباء وأمهات ومعهم أطفال، لكن أمه لو عرفت هتموته، لا يهم فهو هنا الآن. دخل الميدان، لم يكن خائفاً من كلام التليفزيون عن هؤلاء، من بعد معركة فيلم الأرض لم يعد خائفاً من هؤلاء، فهم طيبون، لن يؤذيه أحد.. هنا وهناك شباب ممصوص الخدود، على رؤوسهم شاش وقطن، منهم من ينام على الأرض، وعلب كشرى فارغة كثيرة مصفوفة، مكتوب بها كلمة «ارحل» على الأسفلت، وشباب وبنات «من الكبار زى اللى فى الكلية» بلون النور والبدر، يرفع عينيه إليهم، فى الزحام الشديد ومعه العجلة، يمشى ببطء، الأكف تربت عليه برفق، لا أحد يتكلم، الكل مبتسم، الأكف تربت على كتفه برفق، تداعب رأسه، عرقه بدأ يجف من الهواء البارد بعد أن استراح، مال على الرصيف وجلس، خلع السويتر الأسود وكان تحته التيشرت الأحمر الذى يلبسه فى البيت، مقطوع من تحت الياقة، لم يخجل، خلع الكوتشى ومسكه فى يده وقرر أن يمشى حافياً فالأسفلت جميل.. يسمع هتافات تدوى كالرعد.. اررررحل.. اررررحل. والناس جميلة كالملائكة والجنة، والأسفلت المرسوم عليه بالطباشير، الأسفلت حشائش خضراء وأشجار عالية وأنهار من الماء الرقراق، ومظاهرة تمر أمامه، فيها أولاد وبنات فى سنه، وكانوا يهتفون: مش هنمشي، هو يمشي، مش هنمشي، هو يمشي. الناس تساعد بعضها، تمتد أيادى الكبار فوقه إلى بعضهم، هذا الرجل يأخذ بيد هذه السيدة لتتجاوز سور الجنينة العالي، هذا العجوز يأخذ بيد ذلك الشاب الملفوف رأسه بالشاش ليعبر فوق غطاء البلاعة ويعطيه ساندوتش فينو، هو أيضاً امتدت إليه يد بساندوتش فينو لكنه قال: شكراً أنا مش جعان فألحت عليه اليد ذات السندوتش فأخذ السندوتش مكسوفاً ووضعه فى جيب البنطلون وهو يشعر بالذنب. ورأى أولاداً مثل عيال بياعين الفاكهة فى شارعهم، أحدهم يرتدى عمّة، إحدى عينيه مربوطة بالشاش والبلاستر، يرقص وسط حلقة من الناس على ضربات طبلة، أغنية لا يعرفها تذكره بالفلاحين، والولد رقصه جميل، يحجل على هذه القدم وتلك مبتسماً ورجال فوق سور المترو العالى فى أيديهم طبول ودُف يغنون: حسنى اتجنن، حسنى اتجنن، ويؤدون بأيديهم حركة كالمروحة لصق الرأس إشارة إلى الجنون، حركة منتظمة جميلة دفعته للضحك بصوت عال سعيد، ضحك طليق كالغزلان، وناس يرفعون نعشاً وينشدون: الجنازة حرة والميت كلب، الجنازة حرة والميت كلب، والأرض غابة خضراء والسماء شجر ونخيل عال والميدان لم يعد رمادياً، الميدان ألوان زيت وألوان ماء وجنة مرسومة لوحات أجمل أجمل بكثير من أفلام سبايدرمان.

عمرو خيري
 
 

 
 
تـظبيـط
 
وأنت فى حضرة حديقة (دار العلوم)، عليك بمتابعة نشاط الأجساد وكيفية تطور لغة الحديث بينها، من خطفات سريعة قد تنال  شيئا كان لا يتم  إلا بعد حلول الظلام، أما الآن فهويتم فى أى وقت بعد الإطمئنان إلى (تظبيط) أفراد أمن الحديقة بخمسة جنية وعلبة سجائر أمريكانى، حتى لا يتابعوا الحركات والسكنات ومنع للنظرات التى تتابع درجات العرق الناضح على الوجوه، وهوتطور محمود لكل الفئات التى ترتاد الحديقة وقت النهار ،  أما  الملامسات فقد تطول حسب درجة تطور اللغة بين الطرفين المتلامسين، والتى قد تصل درجة التطور - فى أغلب الاحيان  - إلى الخوض فى أفعال سفلية، هنا فقط يتحرك أفراد الأمن لمنع التطور الطبيعى للحركات ( اللى من تحت ) كما يسمونها،وهم يتحركون بدافع منطق يدعون فيه أن لهذه الأفعال أماكن أخرى غير الحديقة، وأنهم من الممكن التنازل عما يرونه إذا كان لا يصل إلى الحركات ( اللى من تحت)، وقد يتحرك أفراد الأمن لحماية أنفسهم وقت التفتيش، وقد يتحركون ضد أحد الزوار  ( النشطين ) لأنه لم يبد لهم نفعا، ويبدون جسارة فى التعامل قد تصل فى بعض الأحيان إلى ضرب المتذمرين من الشباب الذين يحسون بالإهانة أمام من يصطحبونها، فيبدى البعض منهم احتجاجا قد يصل به إلى أن يتم سحبه من قبل أفراد الأمن الذين قد يجدونه صيدا – هو وفتاته التى قد تنال أيضا نصيبا من الشتائم والإيحاءات القبيحة التى قد تنال من شرفها وخلقها – ثمينا ينالون منه أمام فتاته وخاصة إذا كانت جميلة، وهناك اعتراف بأنه كلما كانت فتاة هذا الشاب جميلة كلما (أخد ضرب وشتيمة لحد ما يقول جاى ورقبته تنكسر وتدلدل قدامها )، وتبدأ الاعترافات تحت تأثير الضرب ويعترف الشاب أنه لا يعرف فتاته التى بصحبته وأنه إما تعرف عليها أمام الحديقة وأتى بها ليقضى وقتا ممتعا، وإما يكون قد أتى بها من وسيلة مواصلات (ميكروباص مثلا)، وقد دفع لها مقابل أن يتلمس جسدها أويعدد القبلات فى جميع أنحاء جسدها.
قد تثور الفتاة على ذلك الشاب وتتهمه بالكذب، وقد تصمت، وقد تدعى أنها زوجته وحين يطلب منها إبراز قسيمة الزواج تبكى أوترد بأنها لم تستخرج بعد، وهناك حالة قد خلعت فيها الفتاة ما كا يستر نصفها الأعلى طالبة من أفراد الأمن أن  يتناوبوا عليها مقابل أن تنتهى تلك المهزلة، ويتركوا ذلك الشاب الذى توسل لعدم تسليمه للشرطة .
(الأمن)، يرفض أن يفرض عليه واقع لا يستطيع تغييره حينما يريد، فأفراده يمتلكون أساليب للتكتم كما للفضح، فقد يجبرون الجالسين على أخذ مشاريب من كافيتريا الحديقة وبأسعار عالية عن المألوف حتى يتركوهم لحالهم، ويقتسمون النقود مع صاحب الكافيتريا على أساس نسبة يتفق عليها مسبقا.
(يا ريتنى كنت عبيط، كان بدل مخ فى دماغى قرنبيط) قالها (حامد البحيرى) ويخرج زفرة إن احتكت بوجهك لأحرقته، كنت تجلس إلى جواره حتى دخل (صابر) حارس الحديقة الليلى ليلتقط ورقة كانت ملقاة على الأرض ورفعها إلى الجدار بعد أن قام بتثبيتها بلاصق انتهت صلاحيته لتطالع ما هومدون بها .
«توفى إلى رحمة الله (مندوح السيد ) الحارس الليلى»
«العزاء : بقرية طموه – جنب الفرن الالى»
«ولا عزاء لزوجته لوسمحتم»
«رحمة الله عليه وعلى موتانا أجمعين»


شريف تمام
 
 
كيس برتقال
 
اليوم مختلف، هو غير كل ما فات من عمره، يوم يُكتب فى التاريخ ليتذكره ما امتد به الأجل. هو أول يوم  يخرج من عمله وهويحمل مثل هذا المبلغ فى جيبه. خمسون ألف جنيه!! هكذا دفعة واحدة!! تحت حساب ماذا؟ هو لا يريد أن يتذكر.. المهم أخيراً أنه حازالمبلغ، والغاية دائماً تبرر الوسيلة. نظر فى ساعته، مازال لديه وقت للجلوس على المقهى وللتفكير. طلب شيشة وشاى وجلس ينفث همومه مع دخانها. بدأ يحملق فى وجوه الغداة ليتسلى وينشغل عن آهة تمزع صدره، لماذا لا يبدو أحد سعيداً؟ لماذا يسير الجميع وهم يحملون طاجن ستهم؟ لمَ هذا الخمول والكسل على كل أجساد البشر؟ لماذا تبدو على كل الوجوه اللامبالاة وأنه لا شيء يهم؟ برغم الدخان أحس بجفاف حلقه فبدأ يحتسى شايه دون استمتاع. لاشيء فى الدنيا ممتع. نظل نجرى ونلهث كالكلاب ونظن أننا نلنا شيئاً ولكن الحقيقة الكبرى أننا فى لهاثنا نقترب من الحقيقة الوحيدة المنسية.. الموت. انتفض عند ذكر الكلمة. لا لن يسمح للموت باختطاف فلذة كبده «كريم» وإن نخر السرطان عظامه سيقاتله. واليوم معه سلاح الحرب فى كيس داخل قميصه. اليوم يستطيع حجز سرير بمستشفى يليق بآدمية المريض. كان الأجدر به أن يكون سعيد. لماذا يشعر بروحه تُعتصر؟ يغيب قليلا عن المشهد حوله وتتراءى له صور طالب غض بكلية الحقوق يحلم بغد يحقق فيه كل أحلامه، غد سيكون فيه زعيماً سياسياً أو مسئولاً مرموقاً. كل أحلامه تكسرت على صخرة  «الواسطة» وإن «اللى له ضهر ما ينضربش على بطنه» وظهره فلاح بسيط أنفق ما يملك لتعليمه، فتنقل بين مكاتب المحامين حتى واتته فرصة العمل بالشهر العقارى عن طريق أحد زبائن المكتب. الوظيفة الحكومية مضمونة المرتب ومضمونة المعاش، ولكن المرتب الحكومى - مهما عظم- ضئيل، فاحتفظ بالعمل مساءً بمكتب محام كبير. مرتب الوظيفتين بالكاد يكفى متطلبات البيت وتعليم الأولاد بالمدارس الحكومية العادية. أما الطوارئ تتكفل بها الجمعيات التى ينظمها الموظفون المعذبون من الزملاء.
هو لا يدعى شرفاً ليس به. يعلم يقيناً أنه خادم لقمة العيش. طالما يقبض مرتبه آخر الشهر من الحكومة، سيرعى مصالح الحكومة. أما عن عمله بمكتب المحامى الكبير،  فهو يسعى باستماته للحصول على حقوق رافعى القضايا، وإن اضطر أحيانا لاستخدام كروت المحامين القذرة و«شغل الثلاث ورقات»، فلا بأس لأن المهم نبل الغاية. يعود من شروده ملسوعا بالوقت. تلفت نظره الفاكهة المرصوصة بعناية بمحل الفكهانى المجاور للمقهى. يقف طويلاً أمام التفاح. اليوم يستطيع شراؤه. ولكنه ككل مرة يشترى البرتقال . ما السر الذى يربطه بالبرتقال؟ هناك رابطة ما.. شبه ما بينه وبين البرتقال. ابتسم لسخافة الفكرة. فكيف يشبه الرجل فاكهة ما؟ لكنه فى قرارة نفسه يعرف أن كليهما يُعتصران للنقطة الأخيرة. أحس بالشمس تلذعه وتذيب رأسه، ففك الزر العلوى لقميصه وأسرع الخطا ليعبر الطريق ليأخذ الأتوبيس. باغته صوت عال لفرامل سيارة ثم سمع صوت ارتطام شديد. نظر فوجد الشاب الذى جواره ساقطاً مضرجاً فى دمائه المختلطة بعصير البرتقال. دقق فوجد قشر البرتقال معصوراً ومبعثراً فى كل مكان. واجهه فيضان من الدماء الممزوجة بالبرتقال. أصبح يسير فوق نهر دماء  برائحة البرتقال يصل إلى ركبتيه. نظر حوله فوجد الجميع يسبحون مثله فى ذات النهر. جلس على حافة الرصيف يبكى مثل طفل يدرك حقيقة الموت لأول مرة. تساءل ما فائدة أى شيء؟ ما فائدة التعب والسعى والركض؟ ما الفائدة إن تزوجنا وأنجبنا أو حتى إن عشنا كرهبان بالجبال؟ تحسس كيس النقود داخل قميصه، هى أول مرة يرتشى ويغض بصره عن مخالفات بالعمل. تساءل مذهولاً بصوت جهورى :هل نقود الرشوة ستحجب كريم عن الموت ؟! ظنه المارة مهووسا يهذي، لكنه فى قرارة نفسه كان يدرك أنه كيس برتقال أصابه العطب ونالته التعاسة.

غادة فايق