الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

المؤرخ رءوف عباس نادى بمبادرة «قيادة الطوارئ» فى 2006 تحسبا لقيام الثورة وتداعياتها




كتبت – تغريد الصبان
كان من الممكن أن تحتفل مصر ومؤرخو العالم بعيد ميلاده الرابع والسبعين لكن رحيله فى عام 2008 يجعلنا نتذكر مولد رائد الوطنية المصرية المؤرخ رءوف عباس حامد ابن إحدى الأسر الفقيرة لأب عامل بالسكة الحديد ببورسعيدرغم انتماؤه لإحدى القرى الصغيرة بجرجا بصعيد مصر، وبالرغم ممن هذه الحالة الأسرية المتواضعة إلا أن أبويه لم ينجبا سواه واهتما بتعليمه جيدا حتى تخرج فى كلية الآداب بجامعة عين شمس 1961م، وحصل على درجة الماجستير 1966م، وكان موضوع رسالته «تاريخ الطبقة العاملة المصرية»، ثم حصل على درجة الدكتوراة عام 1971 م وكان موضوعها «الملكيات الزراعية الكبيرة فى مصر»، وأشرف على الأطروحتين أستاذه المؤرخ الكبير الدكتور «أحمد عزت عبد الكريم».

عين عباس معيدًا بآداب القاهرة متدرجا فى مناصبها إلى أن صار أستاذا فى عام 1981 م، ثم رئيسًا لقسم التاريخ ليكون أصغر من تولوا هذا المنصب سنا، ونهض بقسمه نهضة كبيرة، ودعمه بكفاءات شابة من المدرسين والمعيدين، وتولى وكالة كلية الآداب لشئون الدراسات العليا 1966-1999م فأعاد تنظيمها على نحوٍ يكفل لها حسن أدائها لمهامها، أهلته سمعته العلمية والشخصية لتولى عدة مناصب خارج الجامعة، فكان رئيسا لوحدة الدراسات التاريخية بمركز الأهرام للدراسات السياسة والاستراتيجية، كما كان رئيسا للجنة العلمية بمركز وثائق تاريخ مصر المعاصر، ورئيسا للجمعية المصرية للدراسات التاريخية، فبدأ برئاسته عهدا جديدا لها، وجعلها فى الصدارة بين الجمعيات العلمية داخل وطنه وخارجه، كما حصل على العضوية الشرفية لجمعية دراسات الشرق الأوسط شمال أمريكا (M.E.S.A) فكان أول عربى يحصل عليها.
كانت لعباس مواقف وطنية من القضية القبطية سجلها التاريخ، حيث أرسل عبر مقاله بجريدة الأهالى عام 1993 م والذى اسماه «خطاب مفتوح إلى وزير التعليم» وكان د.حسين كامل بهــاء الدين» آنذاك يحــذره من التلاعب بمستقبل الوطن والتشكيك فى أمانة الأقبـــاط بالجامعة، قــــائلاً: المسألة التى أكتب لك عنها تتعلق باتجاه فى وزارتك يمس سلامة هذا الوطن وأمنه ومستقبله، ويتصل بدور التعليم فى مصر، وما يقع على عاتقه من تأمين غد أفضل للمصريين دون تميز، وكان سبب المقال حين اتصل به أحد مستشارى الوزارة يدعوه لإعداد امتحان الثانوية العامة للتاريخ، إلا أنه اعتذر لظروف خاصة ورشح بدلاً منه الدكتور يونان لبيب رزق، فكان الرد من المستشار هو ضحكة خفيفة ذات مغزى!.. وباستفساره عن المغزى، أوضح المستشار قائلا: إن تعليمات الأمن تقضى بعدم إشراك «أهل الذمة» فى وضع الامتحانات العامة!.. كما يذكر التاريخ أيضا لعباس فضله فى تعيين أول معيدة قبطية فى قسم التاريخ بآداب القاهرة وهى د.مرفت صبحى وذلك بعد معارضة قوية من القسم لتعيينها رغم تفوقها مما دفع عباس لتقديم استقالة مسببة بهذا الشأن التى كان سيستتبعها تحقيق لينكشف بعدها حالة التعصب الدينى السرية داخل أسوار الجامعة.
كثيرون من متابعى كتابات رءوف عباس ومتابعين لمسيرته الفكرية والعلمية يؤكدون أنه كان من أول المتنبئين بثورة يناير وبتبعاتها أيضًا وهو ما جاء بمقاله بجريدة الكرامة عام 2006 وعنوانه « عن الطوفان القادم لا محالة - «قيادة طورائ» لثورة مصر ضد الطغيان» الذى نقدم منه مقتطفا مهمًا جدا قال فيه: وتعطينا التجربة التاريخية صورة واضحة لذلك فقد كانت الثورات الشعبية العارمة للجماهير المصرية بحكم عفويتها وافتقارها إلى التنظيم «فى معظم الأحوال»، تنتهى على يد السلطة الطاغية التى تستجمع قواها، وتلملم أنقاضها، مستفيدة من غياب القيادة الجماهيرية القادرة على طرح الأسس التى يقوم عليها البناء الجديد، باستبعاد النفايات والأنقاض....«قيادة الطوارئ» مطلوبة اليوم بإلحاح، وتعنى -فى تصورى- تكوين جبهة وطنية من القوى السياسية المعادية للظلم والفساد والاستبداد وتلتف حول برنامج وطنى يمثل فرقاء الجبهة الوطنية، والخطوط العريضة لإعادة بناء النظام السياسى على أسس ديمقراطية، وإعادة بناء الاقتصاد الوطنى بما يكفل الحياة الكريمة لجميع المصريين دون إقضاء أو تهميش أو استثناء، وإعادة مصر إلى موقعيها الإقليمى والدولى.
واختتم مقاله قائلا: لقد أنفقنا وقتا طويلا فى تشخيص الداء، وآن لنا أن نضع وصفة العلاج، وأن يتم التحام حقيقى بين الجبهة الوطنية المقترحة والجماهير قبل أن يحول الطوفان الجميع إلى أنقاض.
لعباس ميراث فكرى مهم باللغتين العربية والإنجليزية وترجمات عن الإنجليزية أيضا، حيث أصدر نحو عشرين كتابا باللغتين المصرية والإنجليزية فى مجال التاريخ الحديث والمعاصر، منها «شخصيات مصرية بعيون أمريكية»، و«اليابان فى عصر مايجى»، و«التنوير بين مصر واليابان»، فضلًا عن سيرته الذاتية ذائعة الصيت، بجانب بعض الترجمات منها: «دراسات فى تطور الرأسمالية» لـ«موريس دوب»، و«يوميات طبيب هيروشيما» لـ«متشيكوهاشيما»، ومراجعته لكتاب «الجذور الإسلامية للرأسمالية» لـ«بيترجران»، «وما بعد المركزية الأوروبية» للمؤرخ نفسه، و«تجار القاهرة فى العصر العثمانى» لـ«نللى حنا»، وحاضر فى العديد من الجامعات العربية والأوروبية والأمريكية واليابانية.
يعد كتابه «مشيناها خطى» الذى يتناول سيرته الذاتية من أهم الإصدرات، حيث تحدث عن قصته وكفاحه ورحلته فى البحث عن معنى الحياة والوجود بشكل سلس عذب دون أن يخجل من ذكر أى شىء عن حياته الاجتماعية، مؤكدا انحيازه إلى نظام ثورة يوليو 1952م، وتناول الفساد داخل الجامعة وخارجها، والفساد فى السلطة، وكان لموقفه هذا الحرمان من العديد من الجوائز والمناصب القيادية. وعبَّر فى سيرته عن الوحدة الوطنية، وحق المواطنة.
حظى عباس بتقدير المحافل العلمية فى مصر والخارج، وحصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية 1999م.