الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الوشاحى» مارس النحت حفاظا على إنسانيته!




كتبت – تغريد الصبان

التحاور والتحدى الضمنى ما بين الكتلة والفراغ كان الشغل الشاغل للنحات المصرى العالمى عبد الهادى الوشاحى الذى رحل عنا مؤخرا بعد صراعه مع المرض لعدة سنوات، لماذا الوشاحى عالميا؟ ولماذا صنف كأحسن نحات دولى فى عام 2001؟ فى جمل قصيرة للناقد الأسبانى راؤول شقارى فيرى نكشف السر، حيث قال: إن أعمال الوشاحى بكتلها الصرحية تشكل بلاغة وعضوية ومعمارية وكونية مثل أجزاء فى النحت المصرى القديم، وأحيانا تتسم أعماله بالدائرية فى تناغم وفخامة النحت الإغريقي، كما يمكن القول بأن الفنون التعبيرية لحضارة قديمة لبلد ماتتشكل من خلال الوشاحى فى أعمال غاية فى الحداثة بكل أبعادها مؤكدة عالميتها.
هذه هى كلمات الناقد الأسبانى واصفا بإيجاز فكر ورؤية الوشاحى الخاصة، فكان أحد الذين تحدوا القوانين الفيزيائية فى الارتكاز، خلال خلقه وبحثه عن محاور ارتكاز أخرى تضع المتلقى فى قلق وحيرة من أمره لهذه الكتلة ذات الاتزان الواضح إنما هى فى حقيقة الأمر غير مرتكزة بالشكل الصحيح!
لعب الوشاحى على الجسد الإنسانى  بملامحه أو أطرافه، فكانت الكتلة الجسدية له هى مصدر الإلهام له والمساحة التى يتحرك فيها ويعيد تشكيلها مرة أخرى، فترى الرأس والأطراف الأربعة صغيرة الحجم، بينما الجسد متسع وعريض وأكثر تحاورا مع الفراغ وكأنه شراع مرن يواجه الرياح بقوة وثبات وليونة واضحة مع إيجاد حلول جديدة للكتلة من خلال الخلق أسطح متعددة على السطح الأساسى للكتلة لتتحول الكتلة لتقترب نوعا من مفهوم الهيكل العظمي، فى محاولة منها للسيطرة على الفراغ والفضاء المحيط بها، عاكسا بذلك مشكلات وواقع الإنسان المعاصر الذى عبر عنها بجملة واحدة حين قال: النحت هو حياتى وأنا منذ سنوات طويلة أمارس فن النحت لأحافظ على إنسانيتى... فأعمال الوشاحى هى كشف عن جوهر رؤاه وأفكاره التى ارتكزت عليها رؤيته للحياة والكون والإنسان، وكيفية تلاقى هذه المجالات بصريا داخل المنحوتات سواء بصورة متناقضة أو فى حالة تحول واستدعاء للكثير من الخبرات والمشاعر والتداعيات الإنسانية.
الوشاحى كان يسعى دوما للقبض على اللحظة الأبدية فى منحوتاته عبر تجويفات ومداخل للضوء ومنحنيات صعبة ملتفة إلى الداخل غير قليلة أبدا، لنجد الضوء وقد حبس بالكتلة وانعكس على أسطحها وتكسر على أخرى، فمثلما يعتمد على الفكرة فى صورة رمزية بمعالجة أقرب للتكعيبية نراه يعتمد لتحقيقها على الخطوط المندفعة والمحملة بطاقة حرة قوية وكأنها تسابق الضوء متجهة لأعلى كأن الشكل تماما كالفكرة ينطلق ويتوهج بشكل مفاجئ عبر جسد طويل متحول الحركة فى اتجاه مغاير عن المتوقع، أو كأن العمل هو شعلة العقل فى تأجج.
هذا الأسلوب فى إنتاج أشكال نحتية كاسحة هى أكثر الأعمال التى تثير الانتظار لحدوث شيء ما، فالشعور بعدم القدرة على تحديد الشكل النهائى الذى تتصف به منحوتات الوشاحي.. هو شعور بمتعة هذه الأعمال وهى تخلق حالة من التراكم والانفجار وانسيابية الحركة وهى تراوغ وتنمو كأنها تعزف على سلم التحولات النحتية ومنحنياتها، وهذا ما يجعل منحوتات الوشاحى عميقة، وما الفجوات التى يتعمدها فى أشكاله إلا ذلك العمق المشرع على فراغات منفجرة بالدلالات والرؤى.
لأن الوشاحى كان أحد أكثر الفنانين المتواضعين وذوى كبرياء نبيل، لم يهتم بذكر ريادته أو بمعنى آخر أسبقيته فى تنفيذ عمل بيرفورمانس والذى قدمه ببينالى فينيسيا عام 1980 حين مثل مصر والفنانين عمر النجدى قوميسيير الجناح المصرى آنذاك والفنان الراحل حامد ندا والفنانة منحة الله حلمى وآخرين، ما هى قصة هذا البيرفورمانس ولماذا لم يذكرها التاريخ أو تسجلها وزارة الثقافة؟! يقول الوشاحي: جاءتنا الدعوة قبل موعد الافتتاح بشهرين، فلم يكن هناك وقت كاف لانجاز عمل جديد، لذا قدمت تمثالا كان جاهزا لدى أعبر فيه عن الإنسان المقهور كما أتخيله فى القرن الحادى والعشرين - التمثال مقام حاليا فى ساحة المدخل الرئيسى لدار الأوبرا المصرية – لكننى لم اقتنع باختصار مشاركتى بتمثال واحد فقط! واختمرت فى ذهنى فكرة تقديم عمله فى جملة متكاملة تتلاءم وتتماشى مع التطورات الحداثية وقتها، وكانت المفاجأة ان حزمت معدات لعرض البيرفورمانس على حسابى الشخصى محلقا إلى فينيسيا، وهناك قمت بتجميع المعدات داخل الجناح المصري، وهى قفصا به كرسيا أجلس عليه وبجواره منضدتين على هيئة مكعبين من الزجاج، رصيت عليهما بضعة أشياء مما يحتاجها الإنسان العصرى إضافة إلى لافتات كتبتها باللغات العربية والايطالية والاسبانية والانجليزية نصت عباراتها على الآتى «ممنوع الدخول»، «ممنوع الانتظار»، «ممنوع الخروج»، وجلست داخل القفص واستعنت بشريط مسجل لسيمفونية البطولة «ارويكا» لبتهوفن مصاحبة للعرض ومتداخلة مع أصوات مسجلة من الشارع المصرى لضجيج المشاة والسيارات ونداءات الباعة، لأربط ما بين المحلى والعالمي، وعلى بعد 9  أمتار وضعت التمثال لإنسان منكسر وربطت رمزيا بين القفص والتمثال ببصمات باللون الأحمر لكفيه وقدميه طبعتها على الأرض بطول المسافة الممتدة بينهما، مما يعطى الانطباع بأن الإنسان إذا مشى على كفيه وقدميه خارجا من القفص فسيقوده طريقه إلى حالة الضياع والانكسار التى عليها إنسان القرن الحادى العشرين.
قوبل هذا البيرفورمانس بتقدير وإعجاب واضح من زوار البينالى الذين أدركوا فكرة الوشاحى فى أن اعتماد الإنسان على مستلزمات المعيشة الجديدة التى استحدثتها التطورات التكنولوجية، ستكون السبب فيما سيصل إليه الإنسان من حالة انهزامية منكسرة، مع ذلك تم تجاهل ذلك تماما فى مصر! ربما خوف القائمين على الجناح من مواجهة التيار التقليدى فى مصر آنذاك بما فعله الوشاحى لكن هذا التجاهل فى النهاية قتل الفكرة فى مهدها لدى الوشاحى الذى أهمل هذا البعد الجديد لديه واستمر فى تنفيذه وأسلوبه المعروف لمنحوتاته التى ربما من أشهرها «استشراف» و«إنسان القرن الحادى والعشرين» و«مواجهة» وتمثال بالحجم الأكبر من الطبيعى لطه حسين والذى كان من المقرر أن يكون البديل لتمثاله الذى تم هدمه بالمنيان لكنها ككل الأفكار ذهبت سدى ومازال التمثال حبيس مرسم الوشاحى متواريا عن الأنظار!