الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

انتـقام المفكر و محنة الإخوان الثانية ج1







 

 
المستشار الدكتور / محمد الدمرداش
 
 

 

فى 29 أغسطس عام 1966 توقفت سيارة سوداء أمام سجن استئناف القاهرة وهبط منها رجل طويل القامة وتوجه إلى الداخل ليفتح باب زنزانة صغيرة ويخرج منها رجل ستينى أصلع له شارب أصابه بعض الشيب يدعى سيد قطب، الذى سئل من الرجل الذى فتح باب الزنزانة سؤال من كلمة واحدة: الآن؟ فرد الرجل: نعـم. ولم يصدق قطب ما أنتهى به الحال من منظر لثورة يوليو ومرتقب لتعيينه فى مقعد وزير التربية والتعليم، إلى رجل يقتاد إلى حبل المشنقة لتنفيذ حكم الإعدام الصادر قبله من أيام قليلة ، فرفع يديه إلى السماء ليصرخ: اللهم اجعل دمى لعنة فى عنق عبد الناصر.

 

والحقيقة أن دم قطب لم يصبح لعنة على نظام الزعيم ناصر بل تطايرت لعنته فأصابت بشررها بلادا وعقولا وتجاوزت حقبا وحدود؛ ففى سنوات السجن - المحنة الثانية فى تاريخ الإخوان بعد محنة حل الجماعة ثم اغتيال البنا فى أواخر الأربعينيات - عمل قطب على إحداث تطوير جذرى فى الاستراتيجيات التى كان قد تبناها البنا خلال العقود السابقة. كذلك فهو أحدث قطعا هاما مع فكره السابق هو نفسه، والذى ركز بالأساس على قضية العدالة الاجتماعية والوجه الاقتصادى التقدمى للإسلام، الذى يمثل فى رأيه النظام القادر على بناء «المجتمع المتوازن» فى مواجهة كل من الشيوعية والرأسمالية.

 

وبالقطع فإن القضية التى شغلت بال قطب أكثر من غيرها هى الفشل الذريع للمنهجية التدرجية الإصلاحية طويلة النفس التى اتبعها حسن البنا، والتى قامت على أساس التسلل لنسيج المجتمع من أسفل بالتربية الاجتماعية والثقافية إلى حين تأسيس المجتمع وصولاً للدولة و الحكومة الإسلامية. لم يكن ما وصل إليه قطب، كما صاغه فى كتابه الأشهر «معالم فى الطريق»، أقل من انقلاب جذرى عميق فى المفاهيم؛ انقلاب قضى على حرية الإنسان وجعله يناصب مجتمعه العداء، وأعاد السياسة (أى الصراع على سلطة الدولة) إلى جوهر الصورة بشكل غير مسبوق فى تاريخ الفكر الإسلامى المصرى، وإن كانت له سوابق فى الفكر الإسلامى الحديث عند الباكستانى أبو الأعلى المودودى.

 

وقد تم على يد قطب الدمج الكامل، إلى حد التطابق، بين الفكرة الإسلامية والسياسة (أى الحكم). فلا الفرد المسلم ولا المجتمع المسلم هما أهم أركان الفكرة الإسلامية. ذلك أن مناط تلك الفكرة وموضع تحققها فى المجتمع البشرى هو حاكمية الله وعبودية الإنسان. وهو ما يعنى تحكيم شريعة الله فى المجتمع، بحيث لا تخرج الأوامر والنواهى والتكاليف والتوجيهات عن شريعة الله كما نُزّلت فى القرآن ومورست فى السنة النبوية.  كتب قطب: « ينبغى أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو (أولا) إقرار عقيدة (لا إله إلا الله) بعدلها الحقيقى، وهو رد الحاكمية لله فى أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم، إقرارها فى ضمائرهم  وشعائرهم، وإقرارها فى أوضاعهم وواقعهم». وعلى هذا الأساس، ولأن المجتمع المسلم هو الذى يُحكم بالشريعة وليس الذى يتكون من أفراد مسلمين، وصل قطب إلى نتيجة خطيرة هى أن المجتمع المعاصر جاهلى: «نحن اليوم فى جاهلية كالجاهلية التى عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية».

 

ولا ريب أن مصطلح الحاكمية التى جرت على البلاد الإسلامية ويلات لا حصر لها يرجع للمودودى فضل ابتكار هذا المصطلح، وإلى سيد قطب فضل الامتياز فى تعريب أفكار المودودى فى هذا الصدد وتبنيها ونشرها؛ وهو ما نتناوله فى مقال الغد إن كان فى العمر بقاء.