الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

خليل النعيمي: لا حياد إزاء فعل تاريخى كـ«ثورات الربيع العربى»




خليل النعيمى طبيب جراح، وروائى عربى سوري، ورحّالة.
ولد فى «بادية الشام»،. عاش طفولته وصباه مُتَرَحِّلاً مع قبيلته فى سهوب «البادية السورية»، درس الطب والفلسفة فى دمشق، وفى باريس تخصص فى الجراحة، ودرس الفلسفة المقارنة، عضو الجمعية الجراحية الفرنسية. وجراح المستشفيات فى فرنسا، رحالة متمرّس، زار مدناً وبلداناً عديدة حول العالم، كتب عنها عدة كتب منها: «مخيلة الأمكنة»، و»كتاب الهند» و«قراءة العالم» الحائز على «جائزة الرحلة المعاصرة»، تحدث إلينا عن الترحال وما تتركه الأماكن التى يزورها به وما تأخذ منه، كما يتحدث عن الثورة السورية وتوقعاته لها ورأيه فى مواقف المثقفين من ثورات الربيع العربى عامة، وغيره من القضايا الثقافية والسياسية فإلى نص الحوار:

■ لماذا كانت الهجرة من سوريا إلى أوروبا؟
- لم تكن هجرة. لمفهوم الهجرة تعريف مستتب، ومقوِّمات، وأسباب وأساليب. فيما يتعلّق بى كان الأمر نوعاً من التَرْك، من الرحيل الإرادى المخطط له بعناية. كان انتقالاً من مكان لم يعد يريحنى إلى مكان آخر. وبالمناسبة نحن لا ننفُرُ من الأمكنة، وإنما من الفكر الدى يتحَكّم فيها. نحن لا نستبدل مكاناً بمكان آخر، وإنما وضعاً بوضع آخر. إلى هنا، أظن أن الأسباب التى يمكن لى أن أعددها ليست سوى أفكار جاهزة للإجابة. والقارئ بغنى عن مثل هذا الأعذار البليدة.
■ ماذا أعطاك المنفى وماذا أخذ منك؟
- لم يأخذ منى إلا سيئاتي. بلى ! أخذ منى كآبتى التى كانت تُكبِّلنى وأنا مقيم . أخذ منى أيضاً الإحساس الكاذب بالرضى عن الذات، وعن الوضع القامع والرديء. وأخذ منى كذلك «العَمى» الذى كان يمنعنى من رؤية الوضع على حقيقته، ومن رؤية البؤس الروحى والوجودى الذى كنا نغرق فيه. وأخذ منى الاعتزاز الزائف بالنفس. ولكَ أن تستنتج ما أعطاني، على الأقل فى مثل هذه الحالات.
■ أنت روائى وطبيب ورحّالة كيف توفق بين هذه الاهتمامات؟
- الكائن كالأرض يمكن أن ينْبُتَ فى تربته الكثير من الأشجار والعناصر. ولا تنسَ أن مَا يقيِّد طاقة الإبداع لدى الكائن هو التربية السيئة، والقمع، ومصادرة الحريات، والتَخْضيع القهري، تخْضيعه وتَذليله، طاقة الفرد عندما يتمتع بالحرية، لا محدودة، وموهبته واسعة عندما لا يقيِّدها الرقيب، لستُ استثناء، هناك الكثير من الناس الذين يمارسون أكثر من فعالية، يكفى أن نُحسِن استخدام حياتنا، وأن نستعمل الوقت الذى مُنِح لنا بأفضل شكل يحقق رغباتنا، والباقى سيكتشفه الكائن بلا عناء.
■ هل تؤمن بالتخصص أم تراه نصف إنسان كما قال توفيق الحكيم؟
- فى بدايات المجتمع الرأسمالى كان ماركس أول مَنْ نَبَّه إلى مساوئ التخصص. واعتبره نوعاً من استلاب القوة العاملة. لأن العامل، فى البداية،  كان ينتج السلعة من أولها إلى آخرها. وكان يعرف كل مرحلة فى انتاجها. ويعرف أحيانا حتى مستَهْلكيها. وكانت «كينونته» تتحق بشكل أو بآخر فى عمله، برغم الاستغلال الذى هو ضحية له. لكن تطوّر الاقتصاد والصناعة والعلوم فى العصر الحديث تجاوز كل هذه المفاهيم. وفرضَ طريقة الإنتاج الملائمة لهذا التطوّر الصاعق: التخصص المُعَمَّق، والمُعَمَّم. فالعامل الصينى اليوم، مثلاً، الذى يكاد ينتج لكل الكرة الأرضية، لا يعرف شيئاً عن مراحل إنتاج السلعة التى يساهم فى إنتاجها غير المرحة المكلّف بها. ولا يهمّه مصير انتاجه. ولا يعرف الذين سيستخدمونه. وفرة الإنتاج العظمي، الآن، لا يمكن أن تتُمّ دون تخصص. وأكاد أقول دون تخصص فى التخصص. الأمر إذن ليس مفهوماً فلسفياً، فقط، وإنما هو عملية مركبة فرضها التطوّر العالمي. حتى ولو كان هذا التطور فى كثير من مناحيه ضد الفرد. ضد إنسانية الإنسان. ضد الكائن، منتجاً كان أم مستهلِكاً.
■ ما المسافة التى تفصلك عن الثقافة العربية بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً فى الغربة؟
- لا تفصلنى أية مسافة عن الثقافة العربية. لأن الثقافة فضاء، وليستْ إقامة. ثم أننى لكى لا أنفصل عنها، وقد كنتُ، منذ البدء واعياً لهذه الإمكانية، تابعتُ الكتابة، والنشاط الفكري، دائماً، باللغة العربية. لا ينفصل عن ثقافته مَنْ يتشبّث بها. وهذه هى حالي. المسافة الجغرافية ليستْ عائقاً فى علاقتنا بالثقافة، وبخاصة ثقافتنا الأم. لكنها، على العكس، قد تساعدنا لإدراك ثقافتنا بشكل أفضل. وتسمح لنا بالقيام بنقدها إذا لزم الأمر، وهو غالباً ما يلزم، بنقدها دون خوف، أو تزلّف، أو مداهنة. لأننا نكون فى منأى عن تأثير السلطة الثقافية العربية المباشر. ونتمتّع، بحكم موقعنا الجغرافى الجديد، بحرية أكبر لنقول، ونفعل، ما نعتقد أنه الأفضل لنا ولثقافتنا.
■ درست الفلسفة والطب.. ما تأثيرهما على تجربتك الأدبية؟
- كيف تريدنى أن أرد على هذا السؤال البديهي؟! دراستى للطب والفلسفة، مثل قراءاتي، هى بعض عناصر شخصيتي. وتجربتى الأدبية، مثل تجارب الآخرين، هى أنا بكليتي. دراساتي، وأسفاري، وهمومي، وعلاقاتى الحميمة، واللاحميمة. هى كل شيء مر على الكائن خليل النعيمي. ولا أريد أن أدخل فى التفاصيل، والمفاضلات.
■ هل تعتبر روايتك «مديح الهرب» نبوءة لما يحدث فى سورية الآن؟
- الرواية ليستْ تنَبُّؤاً، ولا استشرافاً. وإذا كان ثمة كُتّاب لازالوا يزعمون ذلك، فهذا شأنهم. الرواية، أو على الأقل، كما أراها أنا، هى مسألة تعبير حميمية تتعلّق بمَنْ يكتبها. وإذا صادف أن أحداث رواية ما، تتشابه مع بعض وقائع الحياة، فذلك شأن آخر. الأدب لا يبرر الواقع. ولا يحتاج إلى تبرير منه، كذلك.
الثورة السورية العظيمة أكبر من كل الروايات. إنها ملحمة شعب أراد أن يستعيد حريته التى صادرَتْها سلطة غاشمة منذ عقود. ربما سيُكْتَب عنها، أو حولها، روايات كُبْرى، ولكن فيما بعد. يجب أن نكف عن النظر إلى الكُتّاب كعَرّافين، أو متنبّئين، أو مستشرفين للمستقبل. وهى سِمَة كانت تُلْصَقُ بالشعراء، قديماً. والآن، لم يعد ثمّة مبرر لهذا التَكاذُب، والإدّعاء.
■ كيف تتوقع نهاية الوضع المأساوى فى سوريا؟
- سوريا تعيش وضعاً ثورياً، لا مأساوياً. الثورة لها ثمن. وأحياناَ، يكون فادحاً. وهو، فى جميع الحالات سينتهى فى صالح الشعب الذى يثور. لم يعرف التاريخ، انتصار طاغية ثار عليه شعبه. و«هولاكو دمشق» لن يكون استثناء. لكننا فى العالم العربى الذى يرضخ منذ عقود، وفى جميع بلدانه، دون استثناء، لطغيان مُقَنَّع، كما فى بعض الدول، أو مكشوف كما فى سوريا، وشبيهاتها، لم نتعوّد، بعد، على تحمُّل «الخسارة الثورية» من أجل الخلاص من الطغيان. وعلينا الآن بعد التجربة الثورية فى سوريا أن نعيد حسابات الربح والخسارة. ونقرر: هل نثور؟ أم لا نثور؟ والخيار بين التمرّد والخضوع ليس صعباً إلا على مَنْ يريد أن يُثَبِّت التاريخ السياسى العربيّ المتعَفِّن على حاله، ويمنع تحوُّله إلى تاريخ جديد.
■ كيف ينظر الغرب إلى ما يسمى الربيع العربي؟
- الغرب متعدد، ومختلف. وكلمة الغرب لا تعنى فى التحليل الأخير شيئاً ثابتاً. وباختصار: ثمة «غرب السلطات»، المشابه كثيراً لـ«شرق السلطات» العربية، يناور، ويتمَلْعَن، ويُسَفسِط. وهو يريد أن ينجح الربيع العربى شكلياً، ولا يريد. وخلاصة مواقفه من «البيت الأبيض»، إلى «الإليزيه»، هو موقف اسرائيل بشقّيْه: المعلن، والخفي. ولا أحد يجهل ذلك.
أما «الغرب النقديّ»، غرب بعض المفكرين، والمتنوّرين (ففى الغرب، أيضاً، توجد قوى ظلامية مسعورة) هذا الغرب «المفَكِّر» يناصر الربيع العربي، ويعتبره حركة الشعوب الواعية فى القرن الجديد.  لكن علينا أن نعرف أن لا أحد ينصر المتخاذلين. والشعوب العربية بإصرارها الثوريّ ستجعل المترددين، «عَرْباً» و»غَرْباً» يساندون مشروعها التحررى بشكل أكيد.
■ كيف تفاعلت مع الربيع العربي، وكيف ترى انقسام المثقفين العرب بشأنه؟
- من جهتى أحيلكَ إلى «جريدة القدس العربي» التى نشرتُ فيها منذ بداية الثورة السورية مجموعة من المقالات والآراء بشأن الربيع العربي، وبالتحديد حول الثورة السورية. ولا أريد أن أعيد ما كتبته.
أما عن المثقفين العرب، ومواقفهم من الثورات العربية، فالوضع يبقى فى خانة المواقف المألوفة، بين مؤيِّد ومناهِض. وبالإجمال، وضع المثقفين تجاه الثورات العربية المتلاحقة، والتى كما أتصور، ستَتَّسع، وتستمر، هو تعبير صادق عن ارتباط كل واحد منهم، وعن مستوى وعيه التاريخي، أيضاً. وأنا شخصياً، أعتقد أنه لا حياد إزاء فعل تاريخى كالثورة العربية. ولكن ليس من حقنا أن نُكْرِه مَنْ لا يوافقنا الرأي، حتى ولو من أجل انتصار الثورة. تعدد الآراء، مهما بدا مُحْبِطاً هو علامة صحَّةٍ سياسيّّة، وتطوُّر اخلاقيّ واجتماعيّ عالٍ. والثورة هى الأوْلى بأن تكون تعددية، ومتسامحة، وإنسانية. الثورة التى لا تحترم الإنسان هى طغيان بشع.