الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

لحن الحياة




إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة              فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلى                    ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة           تبخَّـــرَ فــى جوِّهــا واندثــرْ
فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـاة               مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ
كـــذلك قــالت لــىَ الكائنــاتُ           وحـــدثنى روحُهـــا المســـتترْ
ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج           وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ:
إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ           ركــبتُ المُنــى، ونسِـيت الحـذرْ
ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعاب           ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ
ومن يتهيب صعود الجبال           يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ
فعجَّــتْ بقلبــى دمــاءُ الشـباب           وضجَّــت بصـدرى ريـاحٌ أخَـرْ...
وأطـرقتُ، أصغـى لقصـف الرعـودِ           وعــزفِ الريــاحِ، ووقـعِ المطـرْ
وقـالت لـى الأرضُ - لمـا سـألت:           أيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــرْ
أُبــارك فـى النـاس أهـلَ الطمـوح           ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ
وألْعــنُ مــن لا يماشــى الزمـانَ           ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ
هــو الكــونُ حـيٌّ، يحـبُّ الحيـاة           ويحــتقر المَيْــتَ، مهمــا كــبُرْ
فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ           ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ
ولــولا أمُومــةُ قلبِــى الــرّؤوم           لَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ
فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـاة،              مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ!
وفــى ليلــة مـن ليـالى الخـريف           مثقَّلـــةٍ بالأســـى، والضجـــرْ
ســكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوم           وغنَّيْــتُ للحُــزْن حــتى ســكرْ
سـألتُ الدُّجـى: هـل تُعيـد الحيـاةُ،           لمـــا أذبلتــه، ربيــعَ العمــرْ
فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام           ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ
وقــال لــىَ الغــابُ فــى رقَّـةٍ           مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ:
يجــىء الشــتاءُ، شــتاء الضبـاب           شــتاء الثلــوج، شــتاء المطــرْ
فينطفــئُ السِّـحرُ، سـحرُ الغصـونِ          وســحرُ الزهــورِ، وسـحرُ الثمـرْ
وســحرُ السـماءِ، الشـجىُّ، الـوديعُ           وســحرُ المـروجِ، الشـهىُّ، العطِـرْ
وتهـــوِى الغصــونُ، وأوراقُهــا           وأزهــارُ عهــدٍ حــبيبٍ نضِــرْ
وتلهــو بهـا الـريحُ فـى كـل وادٍ،           ويدفنُهَــا الســيلُ، أنَّــى عــبرْ
ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍ،           تـــألّق فـــى مهجــةٍ واندثــرْ
وتبقــى البــذورُ، التــى حُـمِّلَتْ           ذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ، غَــبَرْ
وذكــرى فصــولٍ، ورؤيـا حيـاةٍ،           وأشــباحَ دنيــا، تلاشــتْ زُمَـرْ
معانقــةً - وهـى تحـت الضبـابِ،           وتحــت الثلـوجِ، وتحـت المَـدَرْ -
لِطَيْــفِ الحيــاةِ الــذى لا يُمَــلُّ           وقلــبِ الــربيعِ الشــذىِّ الخـضِرْ
وحالمـــةً بأغـــانى الطيـــورِ           وعِطْــرِ الزهــورِ، وطَعـمِ الثمـرْ
 ويمشـى الزمـانُ، فتنمـو صـروفٌ،           وتــذوِى صــروفٌ، وتحيـا أُخَـرْ
وتُصبِـــحُ أحلامُهـــا يقظَـــةً،           مُوَشَّـــحةً بغمـــوضِ السَّــحَرْ
تُســائل: أيــن ضبـابُ الصبـاحِ،           وسِــحْرُ المسـاء وضـوء القمـرْ
وأســرابُ ذاك الفَــراشِ الأنيــق           ونحــلٌ يغنِّــي، وغيــمٌ يمــرْ
وأيـــن الأشـــعَّةُ والكائنــاتُ           وأيــن الحيــاةُ التــى أنتظــرْ
ظمِئـتُ إلـى النـور، فـوق الغصونِ!           ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ!
ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ، بيـن المـروجِ،           يغنِّــى، ويــرقص فـوقَ الزّهَـرْ!
ظمِئــتُ إلــى نَغَمــاتِ الطيـورِ،           وهَمْسِ النّســيمِ، ولحــنِ المطــرْ
ظمِئـتُ إلـى الكـونِ! أيـن الوجـودُ           وأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــرْ
هـو الكـونُ، خـلف سُـباتِ الجـمودِ           وفـــى أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ
ومـــا إلا كخــفقِ الجنــاحِ                      حــتى نمــا شــوقُها وانتصـرْ
فصَـــدّعت الأرضَ مــن فوقهــا           وأبْصــرتِ الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ
وجـــاء الـــربيعُ، بأنغامِـــه،           وأحلامِـــه، وصِبـــاه العطِــرْ
وقبَّلهـــا قُبَـــلاً فــى الشــفاهِ           تعيــدُ الشــبابَ الــذى قـد غَـبَرْ
وقــال لهــا: قـد مُنِحْـتِ الحيـاةَ           وخُــلِّدْتِ فــى نســلكِ المُدّخَــرْ
وبـــاركَكِ النُّـــورُ، فاســتقبلي           شــبابَ الحيــاةِ وخِــصْبَ العُمـرْ
ومَــن تعبــدُ النــورَ أحلامُــه،           يُبَارِكُـــهُ النّــورُ أنّــى ظهــرْ
إليــكِ الفضــاءَ، إليــكِ الضيـاءَ           إليــك الــثرى، الحـالمَ، المزدهـرْ!
إليــكِ الجمــالَ الــذى لا يَبيــدُ!           إليــكِ الوجـودَ، الرحـيبَ، النضِـرْ!
فميـدى - كمـا شئتِ - فوق الحقولِ،       بحــلوِ الثمــارِ وغــضِّ الزّهَــرْ
ونــاجى النســيمَ، ونـاجى الغيـومَ،           ونــاجى النجــومَ، ونـاجى القمـرْ
ونـــاجى الحيـــاةَ وأشــواقَها،           وفتنــةَ هــذا الوجــود الأغــرْ
وشـفَّ الدجـى عـن جمـالٍ عميـقٍ،           يشُــبُّ الخيــالَ، ويُــذكى الفِكَـرْ
ومُــدّ عـلى الكـون سِـحرٌ غـريبٌ           يُصَرّفــــه ســـاحرٌ مقتـــدرْ
وضـاءت شـموعُ النجـومِ الوِضـاءِ،           وضــاع البَخُــورُ، بخـورُ الزّهَـرْ
ورفــرف روحٌ، غــريبُ الجمـال           بأجنحــةٍ مــن ضيــاء القمــرْ
ورنَّ نشـــيدُ الحيـــاةِ المقـــدّسُ              فــى هيكـلٍ، حـالمٍ، قـد سُـحِرْ
وأعْلِــنَ فــى الكـون: أنّ الطمـوحَ           لهيـــبُ الحيــاةِ، ورُوحُ الظفَــرْ
إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ           فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر