الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

زوال دولة الإخوان أم زوال الهوية؟!




كتب: محمود قرنى
لم تكن الهوية المصرية تمثل سؤالا ملحًا لدى عامة الناس وخاصتهم قبل ثورة الثلاثين من يونيو، حيث كان نمط الثقافة النهرية، بطبيعته المستقرة، عنوانا لمرجعيات قبول الآخر، سواء كان هذا الآخر قرينا وطنيا أو نمطا ثقافيا ومعرفيا دفع به الغازى إلى صدارة المشهد. غير أن هذه الوضعية طرأ عليها الكثير من القلقلة عقب اعتلاء تنظيم الإخوان لسدة الحكم. ففى غضون وقت شديد القصر، بعد تشبع المناخ العام بخطاب سياسى يحتمى بالمقدس الدينى لإقصاء خصومه، تعمق الشعور العام بالتهميش واتسعت فكرة فسطاطى الشعب بين فريقى الكفر والإيمان، ما أشاع مناخا من الغربة والخوف لدى جموع الشعب بوسطيته واعتداله، وأضيف إلى مجمل مخاوفهم أطروحات الأممية كبديل لفكرة الوطنية، فى وقت عملت فيه الفزاعة الإخوانية على تزييف المعنيين معا، وبتنا نتحدث عن مقادير دولة كبرى باتت فى أيدى تنظيم يدار بإشارات تأتى من خارج الفضاء الاعتيادى للحكم، وأصبح مكتب الإرشاد والتنظيم الدولى مرجعيتين أساسيتين من مراجع الحكم. كل ذلك عزز عددا من الهواجس لدى الرأى العام وكان أخطر هذه المخاوف يتمثل فى تبدد فكرة الأمن القومى واستباحة الأثر المترتب على مفهوم الخصوصية الوطنية، فى لحظة يتم فيها طرح بدائل فوق واقعية بينها فكرة الخلافة الإسلامية.
وقد تجسد ذلك فى التماهى مع أنظمة الجوار الإخوانية: حماس، ليبيا، تونس، والسودان ، بالإضافة لفتح صفحات من التعاون غير المشروط مع دول بدا تأثيرها الداعم للإخوان يمثل علامة استفهام كبيرة مثل تركيا وقطر،  وبعض أجهزة المخابرات الغربية . ومع الوقت كشف الأداء السياسى للإخوان عن المزيد من التواطؤات  من أعداء مباشرين مثل التعاون الواسع بين السلطة الحاكمة وإسرائيل والولايات المتحدة.
وقد شاهد المجتمع بأسره الحجم المخزى للتنازلات التى منحتها سلطة الإخوان للدولة العبرية التى ظلت لسنين طويلة فى أدبيات الإخوان شيطانا تجب محاربته، كل هذا أدى فى النهاية إلى تآكل سريع فى مصداقية الخطاب السياسى الذى روجت له سلطة الحكم، لاسيما وأن خطابها فى مجمله كان يمثل إهانة للإرادة الشعبية، وتحديدا بعد أن تمكنوا من الحصول على دعم واسع من القوة الأعظم.
وبشكل عام بدت سلطة الإخوان عاجزة عن قبول المفهوم التعددى الذى تقوم عليه الهوية المصرية، لاعتقادهم أن تلك الذاكرة صناعة رسمية مؤسسية، فى حين ظلت حيوية تلك الهوية قائمة فى قدرتها على الاستيعاب والاحتواء وقبول الآخر، وعلى مر السنين كانت مصر بوتقة  صهرت تركيبات حضارية بدت متناقضة، لكنها فى نهاية الأمر استطاعت أن تشكل نسيجا مجتمعيا وبشريا متوائما وصارت مع الأيام مثلا جغرافيا وسياسيا.
هذا فى الوقت الذى تنطلق فيه الهوية لدى تيار الإخوان من كونها نفيا لفكرة المواطنة لحساب فكرة وحدة الدين، وهو معنى أمكنه إنتاج الفرقة المجتمعية بشكل غير مسبوق فى تاريخ مصر الحديث. فوحدة الدين بقدر ما تبدو معنى إنشائيا إلا أنها تعد تعبيرا سافرا عن أعلى درجات الإقصاء والتنكيل بالآخر، وكذلك هى تعبير عن فاشية من نوع ما، لأنها تنتهى إلى احتكار المعرفة باعتبارها مرتبطة بالمطلق والمقدس، وبطبيعة الحال يتم تهميش كل المعارف النقيضة وعلى رأسها المعارف التجريبية، بل واحتقارها كلما أمكن ذلك، بالإضافة إلى تهميش كل معرفة دينية نقيضة.
هذا المعنى بالضرورة يقوم بطرد مفهوم المواطنة من المعادلة المجتمعية لتحل محله التفضيلات ذات المرجعية الدينية  لتنتفى فكرة المساواة إلا لأبناء الطائفة، وتنتفى فكرة الآخر كلية من أدبيات المجتمع ومفاهيم التبادل فيه، بل يتحول الآخر إلى عدو محتمل، فقط، لأنه حامل لمعرفة نقيضة.
وأعتقد أن سقوط النموذج الدينى للحكم فى مصر هو فى المقام الأول من أعلى التعبيرات عن مؤسسية الدولة وارتقاء بنيانها السياسى والقانوني، فقد كان خروج الشعب بالملايين فى جوهره تعبيرا صارخا عن رفضه مفاهيم  الأبوية المقدسة ذات النزعة البطريركية التى تجاوزتها الدولة الحديثة، وتقديرى أن علاج الأزمة المجتمعية الراهنة مسئولية معقودة على كاهل مؤسسات بينها التعليمى والإعلامى والاقتصادى والثقافي، وتقديرى أن تعزيز فكرة المواطنة سيكون بين أهم منجزات ثورة الثلاثين من يونيو، وسوف تكون الدولة الديمقراطية ودولة سيادة القانون هى أهم دروع البقاء داخل التاريخ المعاصر.