الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ايام فى السودان عبقرية أهلنا في الجنوب






محمد حمدى روزاليوسف اليومية : 27 - 11 - 2009


لأن أهلنا في شمال الوادي لا يعرفون الكثير عن اهلهم في جنوب الوادي، والعكس صحيح، ولأن السودان يستحق أن نعرفه، وأن نصالحه وأن نمحو الإساءات التي تسبب فيها بعض إعلامنا المنفلت وغير المسئول بعد مباراة أم درمان، أكتب عن بعض أيام عشتها في السودان لعلها تكون مدخلا لفهم هذا البلد الذي تجمعنا به روابط يجب ألا نسمح بتمزيقها أبدا.
في عام 1997 وبعد أشهر قليلة من المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس بابا والتي نفذتها عناصر إسلامية مصرية متطرفة انطلقت من الخرطوم بدعم وتخطيط من جناح داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان شدت الرحال إلي الخرطوم في مهمة صحفية هدفها الكتابة عن رؤية شاهد عيان لما يحدث في السودان ولمستقبل هذا البلد الذي يمر بمخاض صعب. سافرت السودان بحب وليس كما يفعل المراسلون الأجانب الذين يفتشون عن السلبيات ويختلقون الأزمات، وضعت عيني علي الناس البسطاء الذين تعاملت معهم من قبل في القاهرة والخرطوم.. كيف يعيشون.. ما هي أمالهم وأحلامهم ورؤيتهم للمستقبل.. وبعكس مراسلين صحفيين آخرين يقيمون في فنادق خمس نجوم أقمت في أحد فنادق السوق العربي وهي منطقة تجارية شعبية في قلب العاصمة تشبه كثيرا العتبة وفنادقها الرخيصة.
في فنادق الخرطوم وعلي نيلها الجميل لن تري سوي مشاهد سياحية.. ووجوه معظمها أجنبية، اما في الفنادق الشعبية فيأتي المواطنون من جميع أرجاء السودان، لقضاء شهر العسل للمتزوجين حديثا او البحث عن فرصة عمل، أو تاجر جاء ليتبضع او لتصريف بضاعته.. أو لقضاء حاجة في مصلحة حكومية في بلد كان لا يزال مركزيا رغم تقسيمه إلي ولايات.
أبناء جنوب السودان أول من لفت نظري لوجودهم بكثرة في الخرطوم، حيث العمل والأمن والبعد عن الحرب الأهلية التي كانت حامية الوطيس في الجنوب والشرق بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان التي نجحت قبلها بعام في استقطاب المعارضة الشمالية وإقناعها بالاشتراك في الحرب ضد الحكومة.
كان السؤال الذي ألح علي عام 1997 ولا يزال بعد مرور 12 عاما هو: كيف أثرت الحرب الأهلية المستعرة علي الطبيعة والشخصية الوطنية السودانية؟ بعد استقلال السودان في عام 1956 بدأت إرهاصات التوتر في الجنوب، وسرعان ما تحولت إلي حركة إنفصالية حملت اسم "أنانيا"، ومنذ 53 عاما لم تتوقف الصراعات والحروب سواء بين الدولة ومعارضيها أو بين القبائل المتناحرة والمتخاصمة، كما بدأت أزمة دارفور الحالية، لكن الغريب أنه بعد كل هذه السنوات من العنف لا تزال الشخصية السودانية تحافظ علي سماتها العامة من حيث حب الحياة والبعد عن العنف.. وهو أمر نادر الحدوث في مثل هذه الحالات.
في حرب فيتنام الشهيرة بدأ الأمريكيون الحرب ضد فيتنام الشمالية في عام 1965 لمدة تسع سنوات فقدوا خلالها 57 ألف قتيل ونحو 159 ألف مصاب، لكن هذه الحرب تركت تأثيرات نفسية واجتماعية لن تنمحي بسهولة عن الشخصية الأمريكية وعانت أجيال عديدة من الأمريكيين من هذه الحرب، وهو أمر تكاد تلحظه العين الخبيرة في مواطني أي بلد تخوض حربا.
ورغم أن الحرب في جنوب السودان أدت إلي مقتل وتشريد نحو مليوني مواطن، لا تكاد تلحظ أي تغييرات جذرية في الشخصية السودانية، وربما تكمن هنا عبقرية الشخصية السودانية.. فالسودانيون محبون للحياة، حتي في عز الأزمة لا يتنازلون عن حياتهم ولا يسمحون للأيام العصيبة وللزمن بالتدخل في مسارات الحياة وطبع الشخصية السودانية بالعنف الذي يؤدي إليه حمل السلاح لسنوات.وبينما كانت الحرب في عام1997 دائرة في جنوب وشرق السودان كانت الكازينوهات والمتنزهات الممتدة بطول شاطئ النيل الساحر في العاصمة المثلثة تمتلئ بالناس، البعض منهم فقد ابنا أو زوجا أو شقيقا في الحرب، لكن السودانيين المحبين للأرض السمراء والذين طبعهم النيل بعد تهذيبه بحنيته وخيره، خلعوا عباءة الحزن وتناسوه ورفعوا شعار فلتمض الحياة.