الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قاسم مسعد عليوة: احفظوا ذاكرة «بطولات مصر» قبل الندم




ذاكرة مصر محتشدة بالأبطال والبطولات، ورغم مرور 40 عاماً على انتصار حرب أكتوبر.. فإن أبطال وبطولات هذه الحرب أصبحنا نعرف بعضها، وبعضها مازال مجهولا، الكاتب قاسم عليوة شارك فى حرب أكتوبر73 من الجانب المدنى، الدفاع الشعبى فى بورسعيد، يروى لنا ذكرياته، ويكشف عن أبطال مجهولين، ويوصى بالبحث عنهم، ويتحدث عن آرائه فى الأعمال الأدبية، وسبب ابتعاد الأدباء عن الكتابة عن الحرب، فى هذا الحوار.

■ حدثنا عن ذكريات بداية الحرب؟
- سُرِّحتُ مِن الخدمة العسكرية فى يوليو من العام 1972م. ونقلتُ إلى الاحتياط بعد سنوات سبع قضيتها تحت السلاح، أمضيتُ منها أعوامًا خمسة بجبهة القتال حيث احتدام وطيس معارك حرب الاستنزاف فى منطقة البحيرات المرة. فور تسريحى اخترتُ البقاء فى مدينة بورسعيد وتطوعتُ فى فرق الدفاع الشعبى؛ ووفقاً لنظام التعبئة العسكرية وقتها كنتُ أعود إلى وحدتى فى مواعيد محددة أو حين استدعائى. مخلتى لدى مندوب التجنيد، فما على إلا أن أحصل عليها وأرتدى أفرولى وأذهب إلى وحدتى بالقطار الحربى أو بغيره. نظام جيد كفل -ونظم أخرى- خداع العدو عند التخطيط لحرب أكتوبر 1973م.
الأوامر فى آخر استدعاء ألزمتنى بالتوجه إلى الأساس الذى تلقيتُ فيه تدريبى الأوْلى وهو الأساس الرابع مشاه بالمعادى. بعد أن وصلنا قالوا لنا: «روْحوا»، كانت هذه هى الخدعة التكتيكية التى انطلت على العدو الصهيونى وما كنا نعلم بها. دخلتُ بورسعيد بصعوبة بعد ظهر السادس من أكتوبر، بُعيْد اندلاع نيران الحرب بدقائق فعجبتُ.. تقوم الحرب ويُسرِّحوننا؟!.. وعشت حرب أكتوبر من ألفها حتى يائها فى بورسعيد، وشاركتُ فى إخلاء الجرحى والمصابين، واستلام أسلحة المصابين، ونزع أرقام الميدان مِن رقابهم وتسليمها للشرطة، ومساعدة العاملين بالمصح البحرى مع أختى وخطيبتى، وكانتا مستبقيتين معى بحكم عملهما بالتمريض، فى خدمة جرحى الحرب وقد تنوعت صفاتهم ما بين جنود وضباط جيش وشرطة ومدنيين.

■ ما أكثر الأهداف التى كان العدو يركز عليها أثناء الحرب؟
- تركيز العدو الأكبر سُلـِّط على التجمعات السكانية. بالصواريخ جو أرض وبالقنابل زنة الألف رطل والقنابل التليفزيونية قصفوا المدينة. نثروا الشراك الخداعية على أماكن تجمع المدنيين. ضربوا الأطراف: أشتوم الجميل والترعة الحلوة والمطار، وضربوا العمق: شارع الجمهورية ومناطق مختلفة بحى الشرق، ومناطق بحى العرب وحى المناخ. دمروا مبنى البوستة ذا الطراز المعمارى الفريد، وقصفوا مستشفى الدلفراند، ومدارس ووحدات سكنية وإدارية. أسقطت طائراتهم رقائق معدنية للتشويش على الرادارات، وتوهج الليل بالمشاعل التى أسقطوها حتى إن حبة الفلفل السوداء الملقية فوق الأسفلت كان بإمكان الطيار المُعادى أنْ يراها. طلقات الفيكارز طاردت المشاة، واخترقتْ صواريخهم الأسقف والجدران ونامت على الأسِرَّة. حاولوا عزل المدينة بقذفهم لمداخلها ومخارجها، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً بسبب استبسال قواتنا، كل الأسلحة استبسلت لاسيما مدفعية الميدان والمدفعية المضادة للطائرات والمدفعية الصاروخية. كل منها أعطى أروع الأمثال فى كيفية الدفاع عن المدن. طائراتهم دُمرت فى سماء المدينة. أسرنا الطيارين الهابطين بالمظلات، وامتطينا دباباتهم المأسورة، وبذل أفراد المقاومة والدفاع المدنى جهوداً خارقة فى عمليات الانقاذ والتوعية والحراسة.
فى المصح البحرى مارستُ مهام استلام متعلقات الجرحى وتسجيلها وتسليمها، سجلتُ ما شاهدته فى هذا المصح فى قصة « فى المستشفى»، ولعل هذه القصة وغيرها مما ضمته مجموعتى القصصية « لا تبحثوا عن عنوان.. إنها الحرب.. إنها الحرب» يغنينى الآن عن سرد الكثير مِن المشاهد الفذة التى عشتها  فى هذه الحرب.

■ حدثنا عن مشاهد وشخصيات لم تنسها حتى الآن.
- اتذكر بعض المشاهد التى قد تبدو بسيطة وما كانت وقتها كذلك؛ وهى مشاهد إنْ دلتْ على شىء فإنما تدل على أنَّ مصرنا ستبقى حية ولن تموت، منها مشهد استشهاد العمال الذين كنتُ أحرر كشوف رواتبهم وقد أصابهم، أثناء صرفهم لها بمقهى اللنش بشارع الحميدى فى حى العرب، قصفٌ مباشر أدى إلى استشهاد وجُرح عدد كبير منهم، أذكر منهم «فهدى فهمى جودة»، «محمد عوضين»، «السيد أبو سعدة»، «حبيب معوض»، «حسن خليل»، وعم «عبده رشاد». لا أنسى هذا المشهد ما حييت، فوسط الأشلاء والدم وحركة النقالات وسارينات الإسعاف وحركة معدات الدفاع المدنى، ثمة مَن يجمع النقود الملوثة بالدم ويسلمها لمندوب الصرف دون أنْ يأخذ منها مليماً. قصف مكتبى الذى كنت أمارس فيه عملى وتفانينا من أجل إنقاذ السجلات، ويا لهول مشهد خيول الحناطير والعربات الكارو المحترقة وقد تركت مكانها عند مقهى الاتحاد، وراحت تركض بذيول وأعراف تتطاير منها النيران وتجأر بالصهيل؛ ولا أستطيع وصف الفرحة الذاهلة للأسرة الناجية مِن شقة الطابق الثانى بالعمارة الكائنة بشارع كسرى فى المنطقة المحصورة بين شارعى الروضة والمقدس، اخترق صاروخ جدار هذه الشقة ونام فوق السرير ولم ينفجر.. وما مِن داع لذكر عدد المرات التى تعرضت فيها للموت المحتم لولا رحمة الله.


■ متى بدأت ترصد وتكتب عن الحرب؟
- مع كل هذه المشاهد كنتُ أكتب ، كتب مجموعات قصصية تناولت الحرب بشكل مستقل منها «أنشودتان للحرب» ـ مسرحيتان، «لا تبحثوا عن عنوان.. إنها الحرب.. إنها الحرب» ـ مجموعة قصصية، «500 متر» ـ مسرحية، «عربة خشبية خفيفة» ـ مجموعة قصصية؛ وتضم عددا مِن مجموعاتى القصصية محاور متصلة بالحرب مِن هذه المجموعات: «حدود الاستطاعة»، «خبرات أنثوية»، «نبض المرايا»، حتى روايتى «الغزالة» تعرضت من خلالها لقضية الحرب.

■ فى رأيك من هم أهم من كتبوا عنها؟
- حرب أكتوبر ليست حدثًا عابرًا، وإنما هى واحدة من تجليات قدرات الشخصية المصرية المتجذرة فى أعماق الأرض والتاريخ؛ وأبدًا لم يخن الأدباء حرب أكتوبر خصوصًا أولئك الذين عايشوها وشاركوا فيها وتحمموا بنيرانها، لا فرق بين عسكرى ومدنى، وهؤلاء كثر ومعهم من تأثروا بها وانتقلت إليهم خبراتها. إنَّ مَن كتبوا عن هذه الحرب كثيرون، منهم على سبيل المثال لا الحصر: جمال الغيطانى، فؤاد حجازى، محمد الراوى، يوسف القعيد، رجب سعد السيد، محمود الوردانى، إبراهيم عبد المجيد، فؤاد قنديل، على المنجى، محمد المنسى قنديل، بهاء السيد (رحمه الله)، عصام دراز، محمود الوردانى، محمد عبد الله عيسى، أحمد ماضى، السيد نجم، أحمد ربيع الأسوانى، نجلاء علام، سمير الفيل، سمير عبد الفتاح، على حليمة، ابتهال سالم، أحمد سويلم، أحمد عنتر مصطفى، أحمد الحوتى، صبرى أبو علم، عبد العزيز موافى، جمال القصاص وغيرهم. من هؤلاء مَن لم يرتد الكاكى، ومنهم من لم يحمل سلاحًا.

■ ما رأيك فيما كتب عن حرب اكتوبر هل هو «أدب حرب» أم «أدب مناسبات»؟
- لقد عبر الأدباء عن هذه الحرب من زوايا متعددة إنْ شعرًا أو نثرًا، وأخلصوا فى الكتابة بالرغم من دعاوى الانتظار للتمثل واكتمال الرؤية والتجربة ومقولات مثل رواية الحرب والسلام كتبها تولستوى بعد الحرب موضوع الرواية بعقود وعقود. كتبوا وقدموا إبداعًا جيدًا لولا قصور النقاد وانحيازات الإعلام الأدبى التى اهتمت بالممالآت، ورأت فى أدب الحرب أدب مناسبات، وهذا غير حقيقى بالمرة، فأدب الحرب أدب إنسانى بالضرورة.

= فى رأيك ما السر فى تراجع حماس الأدباء فى الكتابة عن حرب أكتوبر؟
- الكتابة عن حرب أكتوبر ما لبثت أن بردتْ لأسبابٍ عديدة منها، بل فى الصدارة منها، انعطافة كامب ديفيد الكارثية ومحاولات وأد روح المقاومة. صحيح أن هناك من الأدباء من قاوم ولا يزال يقاوم، لكن الكثرة ثبطها إجهاض الانتصار.
سبب آخر أراه مهمًا، فالنظام السياسى الذى ثُرنا عليه فى 25 يناير 2011م. نظر إلى الكتابات المتعاملة مع هذه الحرب من الزاوية التى تكرس لسلطاته، ومن ثم حاول توظيف الكتابات الأدبية لخدمته هو ولتحسين صورته لدى الجمهور العام، خطر هذا الاتجاه هو إبراز الأديب حامل المبخرة وتقديمه على سائر الأدباء، فسعى إلى تحويل إنسانية هذا النوع الأدبى إلى أدب تعبوى منمط يستمد ملامحه وسماته من بروبجندا السلطة، وهذه جريمة نكراء ترتكب فى حق الأدب .
ولطالما زعمت هذه السلطة أنها داعمة لهذه الكتابات، بينما هى فى الواقع تحاربها إذا ما خرجت عن السياق الذى تريده، وهو سياق يضر بالروح الوطنية أيما ضرر. من ذلك مثلاً أنَّ جريدة الأهرام بعد أن بدأت فى نشر رواية «الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازى أوقفت النشر امتثالا لتعليمات النظام السابق.

■ من أهم الأبطال الذين قد نكون لا نعرفهم وتريد الحديث عنهم؟
- مر أربعون عامًا على حرب أكتوبر، وإسرائيل تتباهى بأن الجيش المصرى خال ممن قاتلوها فى حرب أكتوبر وانتصروا عليها، لذا علينا أن نفسد تباهيهم هذا بالتأكيد على الذاكرة الوطنية، ونوثيق كل ما يتعلق بهذه الحرب، وقائع وأدبًا وسيرًا شخصية لبطولات المقاتلين. هذا ضرورى وعاجل  فقد وارى التراب أبطالاً كثيرين، لكن كثيرين أيضًا مازالوا على قيد الحياة وفى ذاكرتهم بطولات لا حصر لها عن أكتوبر، فعلينا أن نبحث عن هؤلاء، وأحيى هنا كاتبًا مخلصًا لهذه القضية يحاول بإمكاناته المحدودة أن يزيح تراب النسيان عن الأبطال الحقيقيين الذين ازورت عنهم أجهزة الإعلام، هذا الكاتب هو إبراهيم خليل إبراهيم، وقد قدم بهذا الاتجاه عددًا من الكتب؛ وبقدر ما تسعفنى الذاكرة أذكر الأبطال عبد المنعم قناوى (بطل السويس)، عبد الجواد مسعد (الشهيد الحى)، محمد إبراهيم المصرى (منافس عبد العاطى فى صيد الدبابات)، باقى زكى يوسف (صاحب فكرة مدفع المياه) وهناك كثيرون من طيارين ومهندسين ورجال استطلاع وصاعقة وغيرهم كثيرون، وأوصيكم احفظوا ذاكرة مصر قبل الندم.