الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

بعد أربعين عاماً.. "نصر أكتوبر" في عيون التشكيليين .. سيظل من أهم روافد تأجيج الوجدان وأقدرها على تخصيب الرؤية الإبداعية للفنانين




فى احتفالية سنوية تملؤها العزة والانتصار والفخر، ذلك الشعور الذى لم يتراجع قيد أنملة رغم مرور 40 عاما على نصر أكتوبر المجيد، الذى أعاد الكرامة للجندية المصرية وللشعب المصرى بأكمله، نرى الفن التشكيلى كغيره من الفنون يشارك فى الاحتفال والاحتفاء بالنصر وتخليده، نحتا وتصويرا، يستمد من تلك اللحظة الوطنية الخالدة طاقة فنية هائلة لا ينضب معينها... فى هذا التحقيق يتحدث عدد من الفنانين التشكيليين والنقاد عن أثر نصر أكتوبر فى الفن التشكيلي، وهل استطاع التشكيليون الاحتفاء بالنصر بشكل يليق به أم لاتزال الأيام تنتظر المزيد والمزيد

فى استعراض بانورامى لأبرز أعمال الفنانين عن نصر أكتوبر يقول الفنان والناقد د.ياسر منجي: لاشك فى أن جلائل الأحداث الوطنية، كانت، وستظل، رافدا من أهم روافد تأجيج الوجدان الجمعي، وأقدرِها على تخصيب الرؤية الإبداعية لدى طائفة واسعة من الفنانين، على اختلاف المجالات والاتجاهات. وقد بزغت قيمة هذه الأحداث، على وجه الخصوص، فى سياق لجوء بعض الخطابات الفكرية والأيديولوجية، فى الاتكاء عليها قصديا، بغرض التوجيه الممنهج للذائقة الوطنية العامة، استثمارا لطاقة الحماس الجارفة، التى تستبطنها الجماهير وتختبرها، خلال تعاطيها الوجدانى المتأجج مع هذه المناسبات، واستهدافا لإذكاء خطاب الهوية الوطنية، ونقلِه من خانة المقولات التنظيرية البحتة، إلى أفق الحراك المشفوع بشواهد الإنتاج الإبداعي، والمؤطر بسياج من فرائد الفِكر والفن، بغية الحفاظ على وهجه، وضمانا لاستمرار الحراك المنبعث من لافح وهجه.

وعلى امتداد التاريخ العربى الحديث، ظلت المناسبات الوطنية منصات داعمة لانطلاقات عدد كبيرٍ من نجوم الإبداع العربي، الذين برز دورهم فى سياق التأريخ الإبداعى لهذه المناسبات، وتجذيرها فى الذاكرة العامة وفى الذائقة الجمعية. وقد تفردت لحظات الانتصار من بين هذه المناسبات المهمّة، باتخاذها صفة الأعراس الوطنية، التى أضفت وهجا من نوع خاص على نتاجات المبدعين المشار إليهم، مستمدا طاقة الفرح العارم المضفور فى صميم كيانها، فصارت لحظات النصر رصيدا وجدانياً لاهباً لإرادة الكشف الإبداعى.

ولم يكن نصر اكتوبر 1973 بدعا بين هذه اللحظات البديعة، إذ نراه وقد أجج كوامن الحراك الإبداعى بين نفر من الفنانين التشكيليين، الذين عبروا عنه من خلال أعمال، تفاوتت، بطبيعة الحال، من حيث العافية التقنية، وأصالة الفكر، ولياقة الابتكار، غير أنها اتَّفَقَت، جميعها، على الانصياع لضرورة الانصهار فى خِضَمّ اللحظة الوطنية الفريدة، التى دشنها نصر السادس من أكتوبر فى صميم المهجة المصرية، لتبقى حتى يومنا هذا، مثالا شاهدا على إرادة الانتفاض الوطنى النافى لنقائص الخنوع، والماحى لجميع مرارات الصبر على الضيم.

ويحضُرُنى فى هذا المقام نموذجان قياسيان، يبدو بجلاءٍ من المقارنة بينهما، ما ذهبت إليه آنِفاً، من اختلاف الرؤى والمعالجات بين الفنانين فى هذا الشأن. والنموذج الأول هو الفنان «يوسف سِيدَه» (1922 – 1994)، الذى اعتمد على المعالجة التعبيرية المباشرة، الممتزجة بمقولات النهج الحرفي، فى استلهامه لنصر أكتوبر فى مجموعة من اللوحات التى أنتجها فى العام ذاته 1973. وفى المقابل، يأتى نموذج «أحمد نوار»، الذى سبق له الانخراط بفنه فى أتون الحياة العسكرية، من خلال تكريس عدد كبير من أعماله لاستلهام ذكرياته عن حرب الاستنزاف، غير أنه اتجه بها صوب وجه مختلفة، تنزع نحو الإعلاء من قيمة الاعتداد الوطني، وتنضح بالمسرة، فور أن تجاوزت بلاده حاجز الخط البارليفى الغابر.

فى مقاربة تاريخية تقول الفنانة والناقدة د.فينوس فؤاد: أعتقد أن الفترة التى تلت حرب أكتوبر لمدة عشر سنوات عبرت عن الحدث بعزة وفخر فهى فترة الحماسة الأولى، من خلال العديد من التماثيل الواقعية والتذكارية التى ملأت الميادين وكذلك اللوحات التى عبرت عن الحدث والانتصار بشكل مباشر مثل أعمال الفنان أحمد نوار وأخرى عبرت بشكل غير مباشر مثل أعمال الفنان صبرى منصور، لكن مما أطاح بهذه الحماسة هو استحضار مجموعة من الخبراء والفنانين الكوريين الذين نفذوا بانوراما حرب أكتوبر بمدينة نصر، بالتالى جنسية غريبة قامت بتسجيل نجاحنا التاريخى وهو ما أثار دهشة الفنانين وصدمهم أيضا مما عزلهم وخفت حماسهم لفترة، إلا أن هذا الحماس استيقظ مرة أخرى عام 1982 فى أحداث الأمن المركزى الذى قامت ضده مظاهرة كبرى، مما استدعى ذكرى نصر أكتوبر لبعث الحماس والإحساس بالعزة من جديد، مرة أخرى استدعى نصر أكتوبر بعد ثورة «25 يناير» حيث ربط الشعب ما بين فكرة تحرير الوطن من مستعمر وبين تحريره من نظام حكم فاسد وفاشل، ففرحة الانتصار واحدة فى الحالتين.. وهو ما تجلى فى فن الجرافيتى ومعارض الفن والثورة والفن والانتصار، حيث نجد أن العنصر المشترك فيهم جميعا هو علم مصر، أضيفى أيضا عنصرا آخر مشتركا يربط بين حرب أكتوبر وثورة يناير وثورة 30 يونيو وهو وجود الجيش المصرى بدباباته ومدرعاته فى الشوارع، بالتالى استدعت فى اللاشعور الجمعى عند الفنانين صورة انتصار حرب أكتوبر، بالتالى ارتبط صورة رفع العلم مع الجنود مع الدبابات وسنلاحظ بالمقارنة بين لوحات ثورة يناير ولوحات حرب أكتوبر سنجد أوجه تشابه عديدة بينهما، فكلها لوحات تمجد النصر ودور الجيش بوجود الدبابات والعلم والشهداء حتى الألوان متشابهة لأبعد حد، لذا أتصور ان احتفالات أكتوبر هذا العام ستكون أقوى من كل عام، لأن الدفعة الحماسية موجودة بعمل مقارنة بين حماسة جمال عبدالناصر ورغبته فى تحرير مصر من القيود وبين حماسة الفريق أول عبدالفتاح السيسى ورغبته فى تحرير مصر من قبضة جماعة الإخوان المسلمين، فإحساس التحرير واحد ومشاركة الجيش فى التحرير واحدة، ثانيا تدعيم القوات المسلحة وإحياؤها للذكرى فى كل الشوارع والميادين وهو ما سيحمس الشعب للتذكر أكثر من أى عام سبق، ففى 2011 كنا منشغلين بالدستور ومرت الذكرى دون أن يشعر بها أحد، فى 2012 حاول مرسى قتل هذه الذكرى بل استفز الشعب بوجود قاتل السادات فى الاحتفال إضافة لتجنبه ذكر كلمة «6 أكتوبر» وذكر اسم السادات، فهذا العام هو أول عام بعد الثورة يعلن الجيش احتفاليته الكبرى وعروض بالهواء بكل محافظات مصر، مما سيحمس الكثير من الفنانين للمشاركة بالحدث بشكل أكثر تفاعلية، كما أن هناك تنسيقا تم ما بين وزارة الثقافة والشئون المعنوية لعروض ثقافية بالميادين مثل عرض «رسالة سلام» وهو ما سيكون دفعة قوية جدا وسيلهم العديد من الفنانين الشباب الذين لم يعاصروا الحدث ولا يعرفون تفاصيله، وأحب أن ألفت النظر إلى اهتمام المدن الجديدة بإقامة نصب تذكارى وتماثيل تحاكى تماثيل نصر أكتوبر والنحت البارز والتصوير الجداري، إنما بأساليب وتقنيات ومعالجات أكثر حداثة وقد تتناول موضوعات قد تبدو بعيدة عن الحدث المباشر لكنها تحمل نفس المعنى وهو استدعاء الانتصارات من الذاكرة الجمعية للمصريين.

فى رؤية مغايرة توضح الناقدة د.هبة عزت الهوارى قائلة: على العكس من العدوان الثلاثى الذى كان له أصداء تشكيلية واسعة المدى، لم تكن التجليات التشكيلية لنصر أكتوبر مواكبة لقوة الحدث التاريخى الفارق فى مصير مصر، على الأقل كماً ، حيث ظلت فكرة النصر تتردد من حين لآخر فى أعمال العديد من الفنانين تعبيرا عن هذا النصر، ومن هذه الإبداعات تمثال العبور للفنان حسن حشمت ورمزى مصطفى (حوار تشكيلى مع بطل 6 أكتوبر) كما أنجز الفنان جمال السجينى تمثال «العبور» وهو يمثل مصر تحمل أبناءها من الجنود فوق ظهرها وهى على هيئة قارب وتعبر بهم إلى النصر وقد قام الفنان محمد العلاوى أستاذ النحت الميدانى بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة بتنفيذ هذا التمثال مع الفنان جمال عبد الحليم فى حجم كبير من الحجر الصناعى عام 1974 وهو موجود حاليا بمحافظة بنى سويف .وقد قام كذلك الفنان محمد العلاوى بعمل تمثال من المصيص اسمه «الخطوة الساحقة» تعبيرا عن العبور وكذلك تمثال الشهيد عام 1993 وهو يمثل الجنود المنتصرين يحملون الخوذة تحية للشهيد.

وقد ذكر أستاذنا الفنان د. أحمد نوار فى حديث لجريدة الأهرام: «أن الإبداع الفنى افتقر على وجه العموم إلى إحداث حالة تفاعل وإبداع ترقى لمستوى الحدث على كافة المستويات الإبداعية (السينما – المسرح – الأدب والشعر – الموسيقى والفن التشكيلي) ويرجع السبب لتعاظم الإنجاز العسكرى لأقصى درجات التفوق والإبداع القتالى مما على آليات وأدوات الإبداع المختلفة والمتواضعة» أو قد يرى البعض أنه لم يلتئم بعد جرح النكسة ولم تتكون بعد القوى الدافعة للفنانين التى تكفى لكى تولد هذه الأعمال، فقد بنى الفنانون من قبل صرحا ضخما من الآمال والأمنيات والمثل والشعارات التى انهارت مع النكسة فكان من الصعب إعادة بناء الثقة والأمان والطاقة الإبداعية من جديد ولذلك اتسمت أغلب الأعمال التى أنتجت فى هذه الفترة بالطابع التسجيلى المباشر . وبالرغم من ذلك فهناك فنانون تشكيليون أنجزوا أعمالا فنية تتميز بالأصالة والنضج بعيداً عن الدعاية والتسجيل المباشر، يذكر منهم حامد ندا، والسجينى ويوسف سيده وعبد المجيد الفقى وفاروق إبراهيم وصلاح عبد الكريم وحامد الشيخ وحسن عبد الفتاح وآخرون» . ويبدو أنها سمةٌ غالبة فى أعقاب الأحداث التاريخية عميقة التأثير فى حياة الأمم ، حين يتخذ التعبير عنها تشكلات إبداعية تتحقق لاحقاً ، تماماً مثل الإبداعات التى تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير .

يقول الفنان والناقد يسرى القويضي: الحقيقة أن هناك أعمالا رائعة سجلها الفنانون المصريون لهذا الحدث العظيم، وعلى سبيل المثال وليس الحصر تمثال العبور للمثال القدير جمال السجيني، وأيضا لوحة الفنان حامد عويس التى سجل فيها العبور، هذا إلى جانب أعمال أخرى، فحرب 1973 كانت حدثا تاريخيا أثر فى كل جوانب حياتنا وانفعل به الفنانون، فنصر أكتوبر بالفعل كان صحوة بعد انتكاسة حلت بنا من 1967 وحتى العبور عام 1973، والحقيقة أن تمثال السجينى عظيم وكنت أتمنى أن تقام منه نسخة ميدانية توضع فى مكان عام مميز، تخليدا لذكرى هذا الانتصار المصرى العظيم، كما ينطوى العمل على رموز من مشاعر الشعب المصرى وتفاعله مع الحدث.