الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

التحليل النفسى لقيادات الإخوان المسلمين (محمود عزت) الحلقة (5)




كتب: د/علي الشامي
الظــل
«عزت» الرجل الظل لـ «بديع» فى ستينيات القرن الماضى وللشاطر فى التسعينيات

يقول الكاتب والفيلسوف اليونانى نيكوس كازانتاكيس: «ما إن نولد حتى تبدأ محاولاتنا فى أن نخلق أن نجعل للمادة حياة»، أى نولد فى كل لحظة، لذا جاهر البعض ولا أبالغ إن قلت إن هدف الكثيرين فى هذه الحياة هو الخلود، فى الأجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران، الصاعد نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود، الهابط نحو التحلل، نحو المادة، ويقول «نيكوس» أيضا  فى وصف هذين التيارين: «هذان التياران  كلاهما مقدس»، إلى هنا انتهى كلام كازانتاكيس، ويقول الطبيب النفسى والمفكر النمساوى الشهير سيجموند فرويد: «إن الإنسان يحمل داخله – أى فى النفس اللا واعية – رغبتين إحداهما هى رغبة البناء، ودعاها «الإيروس»، والأخرى رغبة الهدم وسماها «الثانتوس»،  وفى بدء مشروعه العلمى أكد سيجموند فرويد أن الإنسان تحركه الدوافع طبقا لغرائزه الجنسية فقط، تعرض بعدها لانتقادات شديدة ورفض أشد فى الأوساط العلمية  والطبية أجبرته على تعديل آرائه فى نهاية حياته إلى مفهوم أقل حدة، وهو أن الجنس هنا المقصود به كل صور البناء والحياة، وأن العدوان والتدمير المقصود به كل الصور السلبية والهدم والرذائل حتى المعنوية منها، بل وخصوصا المعنوية منها والتى يمكن أن تندرج تحت هذا اللواء.
وفى الفترة الأخيرة ابتليت بلادنا ليس فقط بطوفان من النوع الثانى الهدمى والتدميري، بل وبتمكن هذا الطوفان لفترة من مقدرات البلاد ومفاصلها، هذا الطوفان هو جماعة الإخوان الإرهابية، أما الابتلاء فهو مشروعها المقصود به التمكين لها فى جميع أرجاء الدولة المصرية، فيما عرف إعلاميا بمشروع «الأخونة»، وقام على هذا المشروع الخطير الغريب عن مصر مجموعة من الشخصيات أغرقت البلاد فى فوضى لا مثيل لها، حتى لفظت مصر شعبيا هذا الكيان الإرهابى الغريب النبت، ونحن نهدف هنا بالأساس لمحاولة فهم ما يدور فى نفوسهم، وبعض الديناميكيات لهذه الشخصيات التى تقود الجماعة الإرهابية، نتساءل: ما هو التكوين النفسى لهذه الشخصيات؟، هل هى شخصيات سوية أم بها خلل ما؟، سنحاول جاهدين بلا إفراط ولا تفريط أن نوغل برفق فى تحليل نفسى بسيط لهذه الشخصيات، والتى ظلت طوال عام كامل من حكم الإخوان تطل على الساحة تحت الأضواء حتى أفول نجم الجماعة، فضلا عن سيطرتها على مقاليد الأمور بالدولة بعد ثورة 30 يونيو.

الحديث هذه المرة عن شخصية تنبع خصوصيتها فى الأساس من عدم تميزها، أو لنقل إن أحد أهم أسباب الصعود والوصول إلى صدارة المشهد - نظريا على الأقل - هو عدم وجود شىء مميز باستثناء حالة «الظل».

المقصود بحالة الظل هذه هو كون الشخصية لا مميز لديها اكتسبته عبر سنوات الاحتكاك والانضمام للجماعة إلا كونها ظلا، أو محسوبا على أحدهم، وهذا «الأحد» بالطبع يكون من الأقوياء أو قيادات الصف الأول، وقد يكون الاحتكاك فى مرحلة دقيقة - كالسجن مثلا - قد حسب شخصا ما على مجموعة بعينها، مما يؤدى إلى دخوله دائرة هذه المجموعة، واكتساب ثقتهم ليظهر ذلك فى أوقات الأزمات.

الأمر أشبه برجال الأعمال الذين يضعون أموالهم بأسماء آخرين غير معروفين، كل مؤهلاتهم الطاعة العمياء والثقة المطلقة، أو أن يقوم أحد «حيتان» الاقتصاد بعقد صفقاته باسم شخص مغمور، ليس بالطبع مقابل المال فقط، ولكن هنا تبزغ الثقة المطلقة، ليتم معاملته وحسبانه على المجموعة وكأنه رئيس، الأمر يبدو سينمائيا نوعا ما لكنه قد يكون أقرب إلى الحقيقة منه إلى عالم السينما.

حديثنا هذه الحلقة عن أحد أعضاء مكتب الإرشاد وهو محمود عزت ويسمى فى مجتمع الجماعة «الصقر»، وهو بالفعل محسوب على مجموعة «الصقور» التى تسيطر على الموقف داخل الجماعة تماما، محمود عزت طبيب بشرى فى الأساس، عمل فى مصر واليمن، سافر إلى انجلترا للدراسة فترة ثم عاد مرة أخرى، فى حياة محمود عزت محطتان رئيسيتان نتناولهما هنا بالتفصيل، لكن قبل أن نخوض فى هذا الحديث نستعرض بشكل سريع كما جرت العادة السمات الأساسية المشتركة المكونة للحالة العامة والتى تخضع لها نفسية الجماعة أو تكوينهم النفسى، وهى سمات الشخصية البارانوية الاستعلائية، جنون العظمة والشك فى الآخرين، وعدم التصديق بسهولة فيما يقوله الآخر، ولاسيما من هم خارج الجماعة، بنفس مفهوم «الأغيار» - باعتبار أنهم شعب الله المختار - وعلى العكس التسليم والتصديق بما يقوله الأفراد من داخل الجماعة، حتى وإن دخل فى إطار اللامعقول، لمجرد ذكره من طرف المنتمين للجماعة، كما نجد ملامح الشخصية «السيكوباتية» وهو تعنى المريض الاجتماعى، بمعنى الرغبة فى تدمير المجتمع – الذى لا ينتمى إليه نفسيا -، فهو لا يعترف بغير مجتمعه الصغير - وهو الجماعة ذاتها -، والإيذاء إلى جانب الحالة العامة من الهدم والإفناء والرذائل وهو التيار المرادف للموت والهلاك الفردى والجماعى والمناقض للتيار الآخر المبنى على أفكار البناء والفضائل والمرادف للحياة والحضارة.

نعود إلى النقطتين الرئيسيتين أو لنقل مفترق الطرق الذى دفع بصاحبنا إلى موقعه هذا كمرشد عام مؤقت، أو احتياطى، أو لنقل «مرشد على ما تفرج»، المشهد الأول الفارق وهو اعتقال عزت مع المجموعة المعتقلة عام 1965 مع سيد قطب والتى انتهت بإعدام الأخير شنقا والسجن لعزت عشر سنوات، وكان لا يزال طالبا فى الجامعة - عين شمس - آنذاك وكان من ضمن المجموعة محمد بديع، المحكوم عليه بخمسة عشر عاما فى القضية ذاتها. 

لاحظ هنا التقارب الفكرى حتى قبل أن يتم الانسجام الفكرى اللاحق فى السجن، فنفس القضية التى يعتقل فيها سيد قطب ويعدم يعتقل فيها أخلص أبنائه - فكريا - ومنهم المرشد السابق «بديع»، والمرشد المؤقت «عزت»، ولاحظ أيضا أن الإخوان تعرضوا لاعتقال مرشدهم من قبل، ولم يحدث أن سارعوا بهذا الشكل إلى تعيين مرشد بديل مؤقت، مما يعنى اضطرابهم وشعورهم بتهديد الوجود المرتبط برأس التنظيم - روحيا - مما يؤكد على حالة القلق والاضطراب المسيطرة على الجماعة، المشهد الثانى المهم هو القضية التالية التى تم اعتقال «عزت» فيها وهى قضية «سلسبيل» التى كان نجمها ورجلها الأول هو خيرت الشاطر - الرجل الأقوى فى الجماعة، ومحرك الأحداث فيها لسنوات طويلة - وكان ذلك فى النصف الأول من التسعينيات وتحديدا فى العام 1993.

إذن.. لنتوقف هنا قليلا ونعد ترتيب الأوراق، نحن أمام رجل ارتبط فكريا بالمرشد العام الذى سبقه، وتم اختياره كخليفة له على خلفية أفكاره «القطبية» التى اعتنقها منذ ستينات القرن الماضي، وارتبط اقتصاديا بالرجل الأقوى فى الجماعة الذى دفع بديع دفعا للجلوس على كرسى الإرشاد مما أثار حفيظة البعض وتذمرهم من داخل مكتب الإرشاد مثل أبو الفتوح، محمد حبيب، وإعلانهم موقفا انشقاقيا - على مستوى الإرشاد وليس الجماعة - وبدأت حرب ضروس بين «ديناصورات» و«صقور» مكتب الإرشاد، حرب تكسير العظام تلك التى تستدعى بالأساس صورا كارتونية تعبر عن توجهات الرؤوس الكبيرة - «الشاطر» تحديدا ورجله على كرسى الإرشاد «بديع»-، وبين أبو الفتوح وحبيب وغيرهم وهكذا.

إذن.. فنحن استنتاجا أمام رجل من الصقور الضعيفة - إذا جاز التعبير - الصقور التى تقف فى نهاية الصف حاملة نفس أفكار الصقور فى المقدمة، ومعبرة عنها أيضا وعلى علاقة فكرية تنظيمية بالمرشد السابق - بديع - واقتصادية مالية بالمرشد الفعلى - الشاطر - فمن أولى منه وأجدر بالجلوس كواجهة معبرة جدا عن المرحلة على كرسى الإرشاد فى انصياع تام وهنا ملمح هام وهو الشعور بالدونية الذى هو ليس تجاه المجتمع ككل وإنما حتى تجاه أشخاص بعينهم وأفراد بصفتهم وشخصهم داخل الجماعة وصراعاتها المميتة.

الرجل هنا هو المناسب بالضبط للدور المطلوب منه، المطلوب من «عزت» الرجل الظل لـ «بديع» فى الستينيات وللشاطر فى التسعينيات، ولكليهما، وللتوليفة الجديدة المختلطة من قوى وموازين معقدة ومتشابكة جدا هو أن يكون متواجدا على الورق، على الظل، هو الموظف البسيط الذى يضعه حوت من الحيتان فى الواجهة ويلمعه ليظهر وكأنه صاحب المال، بينما هو يمارس دور معين مرسوم له بالضبط بمنتهى الاستكانة، ولا يستطيع الخروج عنه بحكم الأفكار وبحكم الخضوع لمركبات الدونية، وربما بحكم «البيزنس».