الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

الحج عبادة العمر




د. على جمعة
مفتى الجمهورية السابق

يعتبر الحج  عبادة العمر ، فلما كانت هناك عبادة فردية بين العبد وربه (الصوم)، وعبادة جماعية على مستوى محلة السكن (الصلاة)، وأخرى على مستوى البلدة والقرية (الزكاة)، كان (الحج) عبادة جماعية على مستوى العالم أجمع، ولأجل هذا كانت هى العبادة المتممة والمشتملة على معانى العبادات التى تمثل أركان الإسلام، ففيها التلبية بتوحيد الله تعالى، الذى هو أحد ركنى الشهادة، وفيها أخذ المناسك عن النبى صلى الله عليه وسلم مما يعنى الإقرار برسالته، وهو الركن الثانى من الشهادة، وفيها الطواف والدعاء الذى هو روح الصلاة، وفيها بذل المال وإطعام الفقراء الذى هو لب الزكاة، وفيها ضبط النفس وإمساكها عن الرفث والفسوق والجدال بما يمثل جوهر عبادة الصوم، مع ما فى تلك العبادة من مشقة السفر والتعرض لمخاطره؛ لأجل تمجيد الله تعالى وتوحيده، فأشبه الغزو والجهاد فى سبيل الله. وعبادةٌ هذا شأنها لهى عبادة عظيمة جليلة.
ولسماحة الإسلام وتميزه برفع الحرج عن المكلفين لم تُفرض هذه العبادة إلا مرة واحدة فى العمر على المستطيعين، فالحج يمثل الأنموذج الكامل للتعبد والتسليم والفناء فى طاعة الله تعالى، والتقرب إليه بكل سبيل، لذا كان ثوابه هو الثواب الكامل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» ( ).
كما أن فى زيارة بيت الله الحرام تأكيد على ارتباط المسلم بحضارته وتاريخه، وسيره على نهج أنبياء الله ورسله {أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده قل لا اسئلكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعلمين} [الأنعام: 90]. فالكعبة المشرفة هى أول بيت وضع لهداية الناس إلى التوحيد وعبادة الله، وصَفَه عزَّ وجلَّ بقوله: {وَلايَطَّوَّفُواْ بِالبَيتِ العتيق } [الحج: 29]، وقد كان الأنبياء هم أولئك الهداة إلى توحيد الله وعبادته وشد الرحال إلى المواضع التى خصَّها الله تعالى بالطهارة والتقديس؛ قال تعالى:  {وَعَهِدنَا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهر بيتى للطائفين والعاكفين والرجع السجود} [البقرة: 125]، فشد الرحال إلى هذا البيت الحرام هو توثيق لعرى الرابطة بين الإنسان والأنبياء، لا سيما خاتمهم الأعظم، عليهم جميعًا الصلاة والسلام، وفى الحديث النبوى الشريف: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِوَادِى الْأَزْرَقِ فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا وَادِى الْأَزْرَقِ، قَالَ: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَام- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى( )، قَالَ: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلام- عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ( )، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ( ) نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ( ) وَهُوَ يُلَبِّي»( )، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «لَقَدْ مَرَّ بِالصَّخْرَةِ مِنَ الرَّوْحَاءِ( ) سَبْعُونَ نَبِيًّا حُفَاةً عَلَيْهِمُ الْعَبَاءُ، يَؤُمُّونَ بَيْتَ اللَّهِ الْعَتِيقَ، مِنْهُمْ مُوسَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»( ).
كما يتحقق فى الحج الإخاء والسلام،  ففى هذه الرحلة المباركة تأكيد على وحدة المسلمين وترابطهم؛ باجتماعهم فى مكان واحد، وزمان واحد، متوجهين إلى رب واحد، وقبلة واحدة، وقد صار البيت الحرام وطنًا أكبر للجميع، ومثابة للناس وأمنًا، وصارت مكة هى أم القرى، كما سماها الله تعالى، فلا التفات هناك إلى اختلاف الأعراق والبلدان واللغات والألوان والثقافات، ولا فرق بين غنى وفقير، فالكل سواء فى الفقر والحاجة إلى الله Ι، ويظل هذا المشهد الحضارى مصداقًا لقول الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92]، وهناك لا يعم السلام على الإنسان فحسب، بل يتسع ليشمل الحيوان والنبات والجماد، فعن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِى وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا( ) وَلَا يُعْضَدُ( ) شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ( ) لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ» ( ).
ومن حكم الحج إعمار للأرض: إن فى حث الشريعة على الحج والعمرة لَدعوةً صريحةً إلى ابتغاء الرزق الطيِّب، وذلك بالمشاركة فى العمل والإنتاج، والتنمية الاقتصادية، وخدمة المجتمعات الإنسانية، فمن المعلوم أن تكاليف هذه الرحلة ليست بالشيء القليل، وكما يحتاج المسلم إلى زاد يكفيه فى سفره للحج يحتاج أيضًا لتوفير زاد آخر يكفى أهله وعياله حتى يعود، فأولئك الذين أرادوا صلاح آخرتهم وطمعوا فيما يترتب على الحج والعمرة من ثواب عظيم -تدعوهم شريعة الإسلام -أولا- إلى العمل الطيب، وإعمار البلاد، والسعى فى الأرض بما ينفع الناس، وليس هذا فحسب، بل وتحثهم على الإخلاص والإتقان والإبداع فى العمل، وبهذا السبيل يتمكن المسلم من تحصيل نفقات الحج والعمرة، فيصلح فى دنياه من حيث يطلب صلاح آخرته، بالإضافة إلى ما ينتفع به الفقراء والمساكين من الأضحيات التى تقدم لهم فى نهاية موسم الحج، وإلى هذه المعانى يشير قول الله تعالى: {لِّيَشهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُم وَيَذكُرُواْ اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّام مَّعلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ لأَنعَٰمِ فَكُلُواْ مِنهَا وَأَطعِمُواْ البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28].
ومن معانى الحج كذلك الشجاعة والتضحية: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِر يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق}  [الحج: 27]. إن المسلم الذى فارق وطنه وبلاده وقصد البيت الحرام لهو إنسان وطَّن نفسه على الشجاعة، وبرهن على استعداده للتضحية بحياته فى سبيل تلبيته نداء مولاه سبحانه، فقد كانت رحلة الحج والعمرة قديمًا محاطة بالكثير من المشقة والمخاطرة التى قد تودى بحياة الإنسان، ورغم هذا لم ينقطع المسلمون عن زيارة البيت العتيق، فتعلُّقُ قلوبهم بهذه البقعة المباركة وحبهم لطاعة الله وعبادته كانا سببين كافيين لتوكيد خُلُق الشجاعة والتضحية فى نفوس المسلمين، وإن نفوسًا لم تأبه للخطر واستعدت للتضحية فى سبيل هدف أسمى - لهى نفوس قادرة على اتخاذ القرارات المصيرية، وإقامة الحضارات العريقة إذا ما تهيأت لها الأسباب واتضحت لها الأهداف.