الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الكفيف الذى يسير على ضوء إنجازاته المبصرون




أربعون عاما مرت على رحيل جسد الكفيف الذى أضاء الطريق للمبصرين، الباقى بفكره وأدبه ودراساته وروحه المتحدية ملهما متحديا إلى الآن، إنه الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي (14 نوفمبر 1889 - 28 أكتوبر 1973)، الذى لم يعقه فقد بصره صغيرا عن حمل آماله فى العلم من قريته « عزبه الكيلو» إلى الأزهر الشريف بالقاهرة ومنه إلى جامعة السوربون بفرنسا.... اليوم فى ذكرى رحيله الأربعين يتحدث عدد من المثقفين عن الأديب الذى تحدى الظلام الذى يعيش به وأضاء العالم العربى بفكره.

يوسف القعيد: الأديب طه حسين عبقرية مصرية نادرة، من أهم المفكرين العرب فى القرن العشرين، رجل كفيف استطاع أن يقهر الظلام وتحدى ظروفه وأنجز ما لم ينجزه مبصر، فكانت بصيرته تقود قلمه وعقله وأفكاره، ابدع فى ادب السيرة الذاتيّة مع كتابه «الايام» عبر فيه عن سخطه على واقعه الاجتماعي، وله بعض الأعمال المترجمة ترجمها بعد رجوعه من فرنسا، وصاحب تشجيع المرأة ودعمها لنيل حقها فى التعليم، كما ساهم فى دخول أول امرأة للجامعة المصرية وهى الدكتورة سهير القلماوى، حيث تولى إقناع أسرتها بعد ان اتفق معهم ان يرافق ابنتهم حراسة لحمايتها.

كان طه حسين سابقا لزمنه، وطرح اسئله شائكة فى اعماله كان يدعو الى العقلانية فى الفكر، والاستقلال فى الرأى، والتمرد على التقاليد الجامدة، ومن اهم اعماله كتاب «مستقبل الثقافه فى مصر» الذى أصدره عام 1938 وناقش فيه ربط الثقافه بالتعليم سوف يحل مشكلات التعليم وكان رائدا من الرواد الحقيقين فى الادب العربى واللغة العربية وقدم ما لم يقدمه الكثير للغة العربية، وهم أعماله «دعاء الكروان» و»الايام»، و»الحب الذى كان»، و«المعذبون فى الارض» وكتب ايضا مجموعه قصصية، بعض قصصها تحول إلى أفلام واصبح من اهم افلام السينما المصرية وناقش فى اعماله احوال الفقراء بشكل جرىء، واتذكر لقاء بينى وبينه قبل شهرين من وفاته عام 1973 وتحدث معى باللغة العربية الفصحى وكان وقتها يقام مؤتمر مجمع اللغة العربية كل عام، وكان يعمل فى مجمع اللغة العربية، نفقده فى هذه الفترة فهو أديب لكل العصور.

الكاتب احمد الخميسي: ثمة حالات قليلة فى تاريخ الثقافة المصرية تصبح فيها حياة الكاتب قيمة إضافية بحد ذاتها غير إنجازه الفكرى والثقافي. لقد اكتسب طه حسين مكانته ليس فقط بفضل أعماله بل وبفضل مغزى حياته. إذا تركنا جانبا صدامه الفكرى الصاخب مع الثقافة بكتابه فى الشعر الجاهلي، وريادته فى فن رواية السيرة الذاتية « الأيام»، سنرى فلاحا مصريا ضريرا بسيطا جاء من أعماق الريف المصري، ليس له أهل أو عزوة فى المدينة، لا يتمتع بجاه أو حماية كتلك التى تمتع بها أمير الشعراء شوقى أو أبناء العائلة التيمورية، ولم يكن من أسرة حضرية ترعاه وتؤازره كما كانت الحال مع توفيق الحكيم، ثم يتمكن ذلك الفلاح بإرادة فذة من أن يصبح علامة ضخمة تنير الطريق للثقافة المصرية.

هذه الحياة بحد ذاتها عبرة، تضرب مثالا فى نادرا لكفاح الفلاح المصرى وقدرته، الكثيرون من كتابنا لا يتمتعون بحياة تصلح لأن تكون قدوة ودرسا، لكن طه حسين كان كذلك، والمغزى الانسانى والأخلاقى لحياته قيمة غاية فى الأهمية مضافة لأعماله، لهذا تحولت حياته إلى عمل تلفزيوني، ولا تصلح كل حياة لذلك، دور طه حسين التنويرى كان ضخما جدا أيضا، فهو أول من دعا إلى ضرورة طرح كل القيم الموروثة للنقاش والتمحيص، وكللت دعوته لتحكيم العقل- وليس التقاليد- بكتابه الشهير «الشعر الجاهلي» الذى جلب عليه الكثير من المشاكل وتسبب فى إغضاب الأزهريين.

كما صاغ طه حسين نظرية خاصة فى الأدب والنقد، حتى وإن اعتمدت فى معظمها على إنجازات النقد الفرنسى فى حينه، وحين نعود لدوره الاجتماعى سنجد أنه صاحب صيحة «العلم كالماء والهواء حق للجميع»، وفى كل ما قام به طه حسين لم يفارقه لحظة الشعور بالانتماء لأحلام وطنه فى التحرر والخير، من هنا ظهر كتابه «المعذبون فى الأرض»، وروايته « دعاء الكروان» التى أظهر فيها قسوة الواقع المتخلف فى مواجهة الحب، ومن هنا جاء الاهداء الذى لا ينسى فى أحد كتبه «إلى الذين يؤرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل»، طه حسين نموذج نادر، لعبقرية الفلاح المصري، ونموذج نادر لاستنارة ذلك الفلاح، لهذا أعتبره بعد رفاعة رافع الطهطاوى «أبو الثقافة المصرية» الثاني، لكل كاتب ومثقف فرصة أن يدخل التاريخ بأعماله، لكن طه حسين دخل التاريخ مرتين، مرة بأعماله ومرة بحياته العظيمة.

الناقد حسين حموده: أتصور أن طه حسين، صاحب الأدوار المتعددة، وصائغ المشروع المتنامى عبر رحلة طويلة حافلة، كان وظل دائما «الرائى المبصر» بأكثر مما رأى ويرى المبصرون.. ولا تزال أطروحاته الكبرى صالحة لنا حتى الآن , فى كتاباته المتنوعة، التى تحركت فى مجالات شتى، وتوزعت بين اهتمامات متباينة، من النقد الأدبى إلى التاريخ، ومن السرديات والمرويات إلى المقالات الصحفية، ومن الشعر إلى الترجمة، ومن السياسة إلى الاجتماع..إلخ).. وأيضا عبر الأدوار المهمة التى قام بها، والمناصب المتعددة التى تقلدها (عميدا لكلية الآداب، ووزيرا للمعارف، ومؤسسا لهيئات كثيرة، وعضوا فى لجان لا حصر لها)، وكذلك فى المعارك الكثيرة التى خاضها، والمواقف التى ارتبط بها.. فى هذا كله دافع طه حسين عن قضايا واحدة، وتبنى قيما واحدة، تتصل بالعدل الاجتماعى، والحرية، والاستنارة، والتقدم، والتسامح، ومقاومة التعصب الدينى، والدفاع عن حقوق المرأة، وكلها أيضا ظل يطمح إلى تقدم هذا الوطن، وربط ثقافته بالثقافة الإنسانية كلها، وبحاضر هذه الثقافة، وبمستقبلها، لا بماضيها القديم فحسب . طه حسين، على أكثر من مستوى، كاتب تجاوز سياقه، وإن انطلق فى تجربته بأكملها من الاحتفاء بهذا السياق. اهتم طه حسين بالانتماء إلى زمنه، وإلى قضايا كانت ملحة فى ذاك الزمن، ولكنه فى عدد من كتاباته قدم ما يشبه «الأمثولات» العابرة للأزمنة، ويمكن ملاحظة هذا المعنى فى بعض كتاباته التى لم يتم الالتفات إليها بشكل لائق (مثل كتابه «جنة الحيوان»، الصادر أوائل الخمسينيات). وقريبا من هذا المعنى يمكن ملاحظة أن كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى صدر فى نهايات الثلاثينيات من القرن الماضى، يقدم برنامجا لا يزال قادرا حتى الآن على علاج مشكلات التعليم التى باتت مزمنة، والتى تفاقمت خلال العقود السابقة. ويمكننا أن نقيس على هذين المثالين أمثلة أخرى. ليست مصادفة أن يهاجم بعض «دعاة الظلام» أفكار طه حسين، وليست مصادفة أن يحطم بعض أتباعهم أحد تماثيله. طه حسين، فى مجمل تجربته، مناوئ كبير لكل ظلمات العقل والروح.. وما بذره، فى مواجهة كل ظلام، سوف يتنامى ويثمر، فى زمننا هذا وفى أزمنة أخرى تالية مقبلة. بهذا المعنى، يمكننا أن نقول باختصار، وباطمئان كامل، إن طه حسين، هو أحد «الرائين الكبار» فى تاريخنا الثقافى كله، الذين انطلقوا من حاضرهم ولكنهم رأوا مستقبلهم ومستقبلنا، وحلموا بصيغة أجمل لهذا المستقبل.
الدكتور الناقد صلاح السروى: يعتبر طه حسين واحدا من أهم القامات الثقافية والفكرية فى عصرنا الحديث. وتقاس هذه الأهمية بمدى تاثيره واسع النطاق الذى طال مختلف جوانب الحياة فى مصر والعالم العربى. فلم يقتصر هذا التأثير على الجانب الأدبى وحده (وهو مجال تخصصه الأكاديمى) بل طال الجوانب الابداعية والفكرية والثقافية بصفة عامة، وكذلك الجانب التربوى، والسياسى بدرجة أقل، فهو كاتب روائى وباحث أدبى ومؤرخ ومفكر اسلامى ومنظر سياسى وتربوى. وقد ضرب فى كل هذه الاتجاهات منطلقا من قيم الحداثة المتمثلة فى العدل والحرية والاستنارة العقلانية والمنهج العلمى. مما جعل من طه حسين واحدا من المنورين العظام الذين حاولوا وضع مصر على خريطة العصر الذى نعيشه، سواء من الناحية القيمية (الأخلاقية) أو من ناحية نمط التفكير والممارسة الأكاديمية البحثية والسياسية على حد سواء. وأظن ان نظرات طه حسين التربوية فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» يعد الأهم من بين كتبه العديدة، لأنه يوضح - بجلاء- رؤيته للعلاقة بين الثقافة وبالتالى الهوية الوطنية وباقى الثقافات والهويات الأخرى. خاصة انه قد اتهم من قبل المتشددين بالدعوة الى التغريب والتأثر بالمستشرقين .. الخ. حيث يطرح طه حسين برنامجا تربويا بالغ الطموح والغنى يقوم على هضم التاريخ الوطنى والعربى والدولى والاطلاع على المحطات الرئيسية والاسهامات الجوهرية للثقافة العربية والعالمية أدبا وفكرا ولغة. وفى هذا الجانب اللغوى كما فى الجوانب الأخرى كان لطه حسين موقف بالغ الانحياز للغة العربية والثقافة الوطنية. فهو القائل بضرورة ألا يتعلم الطالب أية لغة أخرى غير اللغة العربية فى مراحل تكونه العلمى الأولى ،ويقصد بها مرحلة التعليم الالزامى، حتى لا تزاحم تلك اللغة الأجنبية اللغة الأم ولا تؤثر على سليقة المتعلم فى هذه المرحلة الغضة من عمره، ثم بعد ذلك فى المرحلة الثانوية يلزم أن يتعلم لغتين أجنبيتين على الأقل على أن تكونا منوعتين بين مختلف لغات العالم، وليستا مقتصرتين على اللغة الانجليزية أو الفرنسية أو ما قاربهما من لغات أوروبية. وأخذ يعدد اللغات الانسانية التى يمكن للناشئة تعلمها فأورد اللغات الروسية والصينية والهندية الى جانب الإسبانية والايطالية .. الخ. وذلك حتى لاتستبد لغة واحدة أو لغتان، بثقافتهما ومخزونهما الحضارى، بألباب الجيل، فيؤثران على انتمائه الثقافى - الحضارى. هكذا كان يرى طه حسين ضرورة تكريس الولاء الثقافى - الحضارى للوطن أولا لكن دون انغلاق ولا تعصب ولا عدوان على قيمة الثقافت الأخرى ومنجزاتها الحضارية، بل بانفتاح خلاق ندى مبدع. كم نحن فى حاجة الى اعادة اكتشاف جهود هذا المفكر الكبير والاستفادة من جهده المستنير.

الناقد الدكتور يسرى عبدالله: تمثل استعادة طه حسين استعادة لقيم الثقافة الوطنية المصرية، ولكل قيم التحديث والاستنارة والإبداع، كان طه حسين ابن أوانه بامتياز، معبرا عن حلم المصريين فى التقدم، ولعل مؤلفه المهم: «مستقبل الثقافة فى مصر»، يحيل إلى أزماتنا بكل دقة، ويضع مشروعا فكريا له ملامح إجرائية واضحة للتعاطى معها، كان طه حسين يدرك تماما جدل العلاقة بين التعليم والثقافة، ويدرك أيضا أن الانفتاح على العالم جزء أصيل من مكونات الشخصية المصرية، وأنه لا عيش فى ظل عالم منعزل، ولم ير فى ذلك أى تعارض من أى نوع بين الحفاظ على محددات الهوية الحضارية المصرية، وانتمائها الحر إلى عالم رحب، ووسيع. طه حسين الأكاديمى والناقد والمفكر المشغول بأمته وناسه دافع وبضراوة عن أفكاره التقدمية التى حملها خطابه المعرفى الفارق، ولم يهادن السلطة ولم يتملقها، انتصر للعقل ولا شيء سواه، وبدا ذلك مثلا فى مؤلفه الذى تعرض للمصادرة «فى الشعر الجاهلي».

طه حسين كان أيضا نموذجا للأكاديمى صاحب الضمير اليقظ، والحي، ففى الثلاثينيات، وبسبب خصومه من الرجعيين، والتقليديين، المعادين لخطه التنويري، وبسبب مواقفه الحرة الرافضة التى كان من بينها منح الدكتوراه الفخرية للشخصيات السياسية المعروفة لشهرتها، تعنتت السلطة ضد طه حسين ومارست عدوانا عليه، ونقلته من الجامعة إلى وزارة المعارف، فرفض النقل و اعتبره اعتداء صارخا على استقلال الجامعة، وتضامن معه أحمد لطفى السيد، وآخرون. إن قيمة طه حسين تنبع بالأساس من قدرته على البقاء فى الوجدان الجمعى للأمة المصرية بوصفه واحدا من حملة مشاعل التنوير الحقيقى لا المزيف، ومن قدرته الفريدة على تمحيص الاشياء ومعالجتها بطريقة علمية لا تدعى اليقين ولا تعرف للفهم الجاهز للعالم طريقا، ولذا حاربه الظلاميون وأعداء العقل، طه حسين كشأن كل المفكرين الأحرار يظل ابن السؤال، والبحث، والموهبة الحقيقية والأصيلة.

الكاتب سمير الفيل: احسب أن الاحتفال بذكرى رحيل طه حسين، يدفعنا إلى تقليب صفحات مشرقة فى سجل الثقافة المصرية المستنيرة، فالرجل الذى نبغ رغم قدومه من «عزبة الكيلو» القرية المنسية القريبة من مغاغة، محافظة المنيا، كان من الشخصيات التى أسهمت أكثر من غيرها فى تحقيق فكرة الاستنارة، والرؤية الناقدة للتراث العربي، وإعادة الاعتبار لدور الأستاذ الجامعى فى الواقع، بحيث يمد جسورا قوية بينه وبين ذلك الواقع حتى وبلاده واقعة تحت نير الاستعمار الإنجليزي.

دعا طه حسين فى كتاباته  إلى أن نمتلك رؤية نقدية، مبنية على العلم، لما نملك من تراث، وهو ما تحقق فى كتابه الأشهر «فى الشعر الجاهلي»، وهو الكتاب الذى وجد معارضة قوية من خصومه، حتى أن بعضهم قدم شكوى للنيابة فأجريت له محاكمة برأته تماما، وتعد حيثيات القضية مصدر فخر للقضاء المصرى المستقل.

 تلك التجربة التى واجهته سنة 1926 ظلت تؤرقه، لكنها لم تنل من صلابته ولا من استقلال تفكيره وقدرته على الاستفادة الجمة من معارفه ـ وقد كان يجيد الفرنسية واللاتينية ـ فاستمر فى طريقه رغم جميع القيود التى حاولت عرقلة مشروعه فى دعم الثقافة العربية المعاصرة برؤى مستنيرة تنحاز للعقل وترفض الأساطير .

وقد كان وجوده فى قيادة وزارة المعارف بين سنتى 1950 حتى سنة 1952 فرصة ليطلق صيحته العظيمة «التعليم كالماء والهواء» حيث ربط تقدم المجتمع بنشر العلم الأصيل فى شتى ربوع مصر، وألا يرتهن الدرس العلمى بقدرة الناس على دفع المصروفات من عدمه. كذلك فإن إنتاجه من الكتب البحثية والتاريخية والأدبية أعلنت بكل وضوح اصطفافه مع كتيبة المثقفين الذين يرون أن الجهد الأكاديمى يمكن أن يساهم فى نهوض الأمة وتحقيق ما تصبو إليه من تقدم وازدهار.

لا شك أننا فى هذا المفصل التاريخى نحتاج إلى أن نلتمس من تاريخ هذا الرجل ودعوته وكتاباته ما نحن بحاجة إليه كى تصبح الثقافة جزء أصيل من بناء وعى الأفراد، وأن يكون هناك إحساس بالفقراء والمعوزين، وأن يمد المثقف المعاصر بصره خارج أسوار الجامعة، فلا يروج للخرافة أو الجهل أو الانكفاء على الذات. نحن نحتاج لمثل هذا الصوت الحر الذى جابه بمفرده جبهة رجعية أرادت النيل منه بل كادت أن تنجح فى الإطاحة به خارج الجامعة لكن هناك دائم يوجد المخلصون الذين ساندوه والتحموا مع فكره وكفاحه فى سنوات عسيرة. وأننا نعيش فى مرحلة مشابهة حيث استفحل المد الرجعى وزاد الجهلة عددا بل صرنا نراهم يقودون أحزابا سياسية وائتلافات للدفاع عن فكرهم الجامد فيما كان هذا الفارس البصير رأس حربة موجهة نحو من لا  يعرفون قيمة العقل وفضيلة الوجدان،  نحتاج مثل هذا الصوت لكى  نبسط خطاب التنوير فى مجتمع عاش ثورتين متلاحقتين، وما زال بعض شبابه يتخبطون هنا وهناك، فليس لديهم رؤية ناصعة لكيفية التغلب على المأزق الحضارى الذى يواجه الوطن، ومستقبله.

الدكتور والناقد شريف الجيار: يعد طه حسين واحداً من أبرز رواد الفكر التنويرى فى مصر والعالم العربي، فى العصرالحديث، فمع بداية عشرينيات وثلاثينيات القرن المنقضي، دعا إلى مشروع فكرى ثقافى نهضوى حديث، يرقى بالأمة المصرية، على الصعيد السياسى والاجتماعى والثقافى والإبداعي، وذلك عبر فكر ثورى واعٍ، يهدف إلى تحطيم التقاليد الجامدة والطبقية المجتمعية والعيش تحت سطوة الماضى والأفكار اللاعقلانية، حتى تقام الدولة المصرية الحديثة. فهو القائل: «الجهل حريق لا ينفع معه التقطير». وقد تأثر فى ذلك؛ بمذهب العقلانية؛ الذى جذّر له أبو الفلسفة الحديثة فى أوروبا فى القرن السابع عشر «رينيه ديكارت»، والذى امتد أثره فى عصر التنوير والعقلانية فى القرن الثامن عشر على يد «فولتير» وجان جارك روسو وديفيد هيوم، وإيمانويل كانط وغيرهم، وهو ما ساهم – بشكل جلى – فى الثورات الاجتماعية والسياسية فى أوروبا طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ مثل الثورتين الفرنسية والأمريكية، وحركات التحرر فى أمريكا اللاتينية؛ مما أسفر عن قيام الدولة الحديثة فى الغرب. وقد تجلى هذا المنظور الفكرى التقدمى المحفز على التنويرية، فيما خلفه «طه حسين» من منجز فكرى ونقدى وإبداعي، وهو ما أثار حفيظة الاتجاه المحافظ، أمثال» مصطفى الصادق الرافعي، والخضر حسين، ومحمد لطفى جمعة، والشيخ محمد الخضري؛ وغيرهم»؛ لاسيما بعد صدور كتابه «فى الشعر الجاهلي» (1926م)؛ والذى كانت من أسباب اتهام «طه حسين» بالتغريب، لذا يقول فى تمهيد هذا الكتاب: «وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوماًَ وشق على آخرين فسيرضى هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم فى حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة، وزخر الأدب الجديد». وهذا ما جعل العقاد يقول عن طه حسين: «إنه رجل جرىء العقل مفطور على المناجزة، والتحدى فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافى بين القديم، والحديث من دائرته الضيقة التى كان عليها إلى مستوى أوسع.