الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

من الدار إلى الغار معجزات حتى المدينة




كتب - صلاح أحمد نويرة
رسوم : مجدى الكفراوى

لقد كانت الهجرة النبوية من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة حدثا تاريخيا عظيما، ولم تكنْ كأيِّ حدث، فقد كانت فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، وإذا كانت عظمة الأحداث تُقاس بعظمة ما جرى فيها والقائمين بها والمكان الذى وقعت فيه، فقد كان القائم بالحدث هو أشرف وأعظم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أشرف مكانا وأعظم من مكة والمدينة، وقد غيرت الهجرة النبوية مجرى التاريخ، وحملت فى طياتها معانى التضحية والصحبة، والصَّبر والنصر، والتوكل والإخاء، وجعلها الله طريقا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، قال الله تعالى: « إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » (التوبة:40).

■ من الدار إلى الغار:
لم تكن قريش تعلم أن الله أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وبينما هم يحيكون مؤامرتهم كان النبى - صلى الله عليه وسلم - قد غادر بيته فى ليلة السابع والعشرين من شهر صفر السنة الرابعة عشرة من النبوة وأتى إلى دار أبى بكر  رضى الله عنه فى وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته، ليخبره بأمر الخروج والهجرة، وخشي أبو بكر أن يُحرم شرف صحبة النبى صلى الله عليه وسلم، فاستأذن فى صحبته فأذن له، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة، واستأجر رجلاً مشركاً من بنى الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط خرّيتا( ماهرا وعارفا بالطريق)، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما، واتفقا على اللقاء فى غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، فى حين قامت عائشة وأختها أسماء  رضى الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لوضع الطعام فيه، فسمّيت من يومها بذات النطاقين، وأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - على بن أبى طالب  رضى الله عنه بأن يتخلّف عن السفر ليؤدى عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت فى فراشه تلك الليلة.
ثم غادر النبى صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر  رضى الله عنه من باب خلفى، ليخرجا من مكة قبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلم أن الطريق الذى ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة الرئيسى المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذى يضاده وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وقام كل من عبد الله بن أبى بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبى بكر بدوره.
■ لا تحزن إن الله معنا:
انطلق المشركون فى آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، يرصدون الطرق، ويفتشون فى جبال مكة، حتى وصلوا غار ثور، وأنصت الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى أقدام المشركين وكلامهم.
يقول أبو بكر  رضى الله عنه ـ: ( قلت للنبى صلى الله عليه وسلم وأنا فى الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) رواه البخارى .
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فى الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب، ثم خرجا من الغار ليلة غرة ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوة، وانطلق معهما عبد الله بن أريقط (الدليل) وعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما فكانوا ثلاثة والدليل.
وعلى الجانب الآخر لم يهدأ كفار قريش فى البحث وتحفيز أهل مكّة للقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أو قتلهما، ورصدوا مكافأة لمن ينجح فى ذلك مائة ناقة، وقد استطاع أحد المشركين أن يرى النبى - صلى الله عليه وسلم - من بعيد، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له: يا سراقة، إنى قد رأيت أناساً بالساحل، وإنى لأظنّهم محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هُم، فأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق فسقط مرة ثانيةً، لكن رغبته فى الفوز بالجائزة أنسته مخاوفه، فحاول مرة أخرى فغاصت قدما فرسه فى الأرض إلى الركبتين، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفى عنهم، وكتب له النبى - صلى الله عليه وسلم - كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا أمره بالرجوع، وكتم خبرهم.
وفى طريقهم إلى المدينة نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بخيمة أم معبد،فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن، فأخذ النبى - صلى الله عليه وسلم - الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها، ثم حلب فى إناء وشرب منه الجميع..
وانتهت هذه الرحلة والهجرة المباركة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ، ليصل النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض المدينة المنورة.
لقد كانت الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انطلاقة لبناء دولة الإسلام، وإعزازاً لدين الله تعالى، وفاتحة خير ونصر وبركة على الإسلام والمسلمين، ولذا فإن دروس الهجرة الشريفة مستمرة لا تنتهى ولا ينقطع أثرها، وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، ومن هذه الدروس:
■ دور المرأة فى الهجرة:
لمعت فى سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير: منها عائشة بنت أبى بكر الصديق  رضى الله عنهما ـ ، التى حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأختها أسماء ذات النطاقين، التى ساهمت فى تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه فى الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى فى سبيل الله، كما روى ابن إسحاق وابن كثير فى السيرة النبوية أنها قالت: « لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر - رضى الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبى بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبى بكر؟ قالت: قلت: لا أدرى والله أين أبي؟، قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى قالت: ثم انصرفوا».
فهذا درس من أسماء  رضى الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفى أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة أمام قوى البغى والظلم.
■ الصراع بين الحق والباطل:
صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية قال الله: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }(الحج: 40)، ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة كما قال تعالى: { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }(المجادلة: 21). ومكر وكيد أعداء الإسلام بالدعاة والدعوة إلى الله فى كل زمان ومكان أمر مستمر ومتكرر، فعلى الداعية إلى الله أن يلجأ إلى ربه، وأن يثق به، ويتوكل عليه، ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال عز وجل: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }(الأنفال: 30).
■ التوكل واليقين:
إن المتأمل لحادثة الهجرة والتخطيط لها، يدرك حسن توكل النبى صلى الله عليه وسلم على ربه، ويقينه أن الله حافظه وناصر دينه، وهذا التوكل لا ينافى أو يتعارض مع الأخذ بالأسباب فقد شاء الله تعالى أن تكون الهجرة النبوية بأسباب عادية من التخفى والصحبة والزاد والناقة والدليل، ولكن لا يعنى دقة الأخذ بالأسباب حصول النتيجة دائما، لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل واليقين والاستعانة بالله، لتقتدى به أمته فى التوكل على الله، والأخذ بالأسباب وإعداد العدة.
يقول أبو بكر - رضى الله عنه ـ: ( نظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه؟!، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) رواه مسلم . يقول النووي : « وفيه بيان عظيم توكل النبى صلى الله عليه وسلم حتى فى هذا المقام، وفيه فضيلة لأبى بكر  رضى الله عنه وهى من أجَّل مناقبه».
■ معجزات على طريق الهجرة:
فى هجرة النبى - صلى الله عليه وسلم - وقعت معجزات حسية، هى من أعلام نبوته، ودلائل ملموسة على فضله ومنزلته، وحفظ الله ورعايته له، ومن ذلك ما جرى له -صلى الله عليه وسلم - مع أم معبد، وما حدث مع سراقة بن مالك ووعده إياه بأن يلبس سوارى كسرى، فعلى الدعاة أن لا يتنصلوا من ذكر هذه المعجزات وغيرها ما دامت ثابتة بالسنة الصحيحة..
■ أم معبد:
عن قيس بن النعمان  رضى الله عنه ـ قال: ( لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ـوأبو بكر مستخفيان، نزلا بأبى معبد فقال: والله ما لنا شاة وإن شاءنا لحوامل، فما بقى لنا لبن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحسبه -: فما تلك الشاة؟، فأتى بها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة عليها ثم حلب عُسا (قدحا كبيرا) فسقاه ثم شربوا، فقال: أنت الذى تزعم قريش أنك صابئ ؟!، قال: إنهم يقولون، قال: أشهد أن ما جئت به حق، ثم قال: أتبعك؟، قال: لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا، فاتبعه بعد ) رواه البزار. وكانت هذه المعجزة سبباً فى إسلام أم معبد هى وزوجها.
 ■ سُراقة بن مالك:
يصف أبو بكر  رضى الله عنه ما حدث مع سراقة فيقول: ( فارتحلنا بعد ما مالت الشمس وأتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أُتينا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه النبى صلى الله عليه وسلم فارتطمت به فرسه إلى بطنها، فقال: إنى أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوَا لى، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبى صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفَّى لنا ) رواه البخاري .
قال أنس : " فكان (سراقة) أول النهار جاهدا (مبالغا فى البحث والأذى)على نبى الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له (حارسا له بسلاحه) ".
ومرت الأيام وأسلم سراقة بعد فتح مكّة وحنين، وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم فى عهدعمر بن الخطاب  رضى الله عنه، فأعطاه عمر سوارى كسرى تنفيذًا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }(النَّجم: 3، 4).
قال الماوردي : "فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم ـ: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم فى نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }(المائدة: من الآية67) فعَصَمَه منهم "..
لقد تركت الهجرة النبوية المباركة آثارا جليلة على المسلمين، ليس فقط فى عصر النبوة، ولكنها امتدت لتشمل حياة المسلمين فى كل عصر ومصر، كما أن آثارها شملت الإنسانية عامةً، لأن الحضارة الإسلامية التى قامت قدمت ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الأخلاقية والتشريعية التى تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، فسيرة النبى صلى الله عليه وسلم لا تُحَّد آثارها بحدود الزمان والمكان، لأنها سيرة القدوة الطيبة والأسوة الحسنة، قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21)..