الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فتوى




ورد سؤال يقول :ما حكم إعطاء المتسولين المنتشرين فى الأماكن العامة؟

وتجيب دار الافتاء المصرية بقولها: «إن أصل (التَّسَوُّل) فى اللغة: استرخاء البطن. وقد ولَّد المتأخرون (تَسَوَّلَ) بمعنى: سأل واستعطى. والمصدر القياسى لـ(تَسَوَّل) سواء أكان بالمعنى الأصيل أم المولَّد هو (التسوُّل). ويُطلَق التسَوُّل ويراد به: طلب الصدقة مِن الناس، وهو ما يُسمَّى بالشحاذة. انظر: القاموس المحيط والمعجم الوسيط (مادة س و ل).

 والأصل فى سؤال الناس -مِن غير حاجة أو ضرورة داعية- أنه مذمومٌ فى الشرع؛ لأنه يتضمن المذلةَ والمهانةَ للمسلم، وهو مما يُنَزِّهُه عنهما الشرعُ الشريفُ، وقد روى مسلم عن عوف بن مالك الأشجعى رضى الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تُبايِعُونَ رسولَ الله؟» -وكنا حديثَ عَهدٍ ببيعة- فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: «ألا تُبايِعُونَ رسولَ الله؟» فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: «ألا تُبايِعُونَ رسولَ الله؟» قال: فبَسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا»، وأَسَرَّ كلمة خفية: «ولا تسألوا الناس شيئًا». قال الراوي: «فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطُ أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إياه».

 وروى الإمام أحمد وابن حِبّان -واللفظ له- عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: «لا يَفتح إنسانٌ على نفسه بابَ مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، لأَنْ يَعمِد الرجل حبلا إلى جبل فيحتطب على ظهره ويأكل منه خيرٌ مِن أن يسأل الناس مُعطًى أو ممنوعًا».

 والناس لهم أحوال فى المسألة، وباختلاف أحوالهم تختلف أحكامهم؛ فالسائل إذا كان غنيًّا عن المسألة بمال أو حرفة أو صناعة ويُظهِر الفقر والمسكنة ليعطيه الناس؛ فسؤاله حرام، ويدل على هذا ظاهر الأحاديث الواردة فى النهى عن السؤال؛ ومنها ما رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تَزَالُ المَسألةُ بأحَدِكُم حتّى يَلقَى اللهَ تَعالى وليسَ فى وَجهِهِ مُزعَةُ لَحمٍ». والمزعة هي: القطعة.

 قال القاضى عياض رحمه الله فى «إكمال المُعلِم» (3/574، ط. دار الوفاء): [قيل: معناه: يأتى يوم القيامة ذليلا ساقطًا لا وَجه له عند الله. وقيل: هو على ظاهره؛ يُحشَر ووجهه عظمًا دون لحم عقوبةً مِن الله وتمييزًا له وعلامةً بذنبه لمّا طَلَب المسألة بالوَجه، كما جاء فى الأحاديث الأخرى مِن العقوبات فى الأعضاء التى كان بها العصيان.. وهذا فيمن سأل لغير ضرورة وتكثرًا] اهـ.

 وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن سأل الناس أموالهم تَكَثُّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستَكثِر»؛ قَالَ القَاضِى عياض فى «إكمال المعلم» (3/575): [يعنى معاقبته له بالنار؛ إذ غَرَّ مِن نفسه وأخذ باسم الفقر ما لا يحل له.. وقد يكون الجمر على وجهه، أي: يُرَد ما يأخذ جمرًا فيكوى به، كما جاء فى مانع الزكاة] اهـ.

 وروى أبو داود من حديث سهل بن الحنظلية رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن سَألَ وَعِندَهُ مَا يُغنِيهِ فإنِّما يَستَكثِرُ مِنَ النَّار- أو: مِن جَمرِ جَهَنَّمَ» فقالوا: يا رسول الله وما يُغنِيهِ؟ قال: «قَدرُ مَا يُغَدِّيهِ ويُعَشِّيهِ- أو: أن يكونَ له شِبْعُ يَومٍ وليلةٍ أو ليلةٍ ويوم».

 ومنها ما رواه الطبرانى فى الكبير عن مسعود بن عمرو رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يزال العبد يسأل وهو غنى حتى يَخلَق وجهُه فما يكون له عند الله وجه».

 وروى البيهقى فى الشُّعَب عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن سأل الناس فى غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم جاء يومَ القيامة بوجهٍ ليس عليه لحَم».

وروى ابن خزيمة فى صحيحه عن حبشى بن جنادة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن سأل وله ما يُغنيه فإنما يأكل الجمر»، ورواه البيهقى فى الشعب بلفظ: «الذى يسأل مِن غير حاجة كمثل الذى يلتقط الجمر».

والقول بالتحريم فى هذه الصورة هو ما نَصّ عليه فقهاء الشافعية؛ قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى فى «أسنى المطالب» (1/407، ط. دار الكتاب الإسلامى): «(ويَحْرُم عليه) -أى: الغنى- (أخْذُها) -أى: الصدقة- (إن أظهر الفاقة) وعليه حَمَلوا خبرَ الذى مات مِن أهل الصُّفةِ وتَرَكَ دينارين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «كيتان من نار». بل وعدها الإمام ابن حجر الهيتمى فى كتابه «الزواجر» (1/304، ط. دار الفكر) من جملة الكبائر.

 أمَّا إن كان السائل مضطرًا للسؤال -لفاقة أو لحاجة وقع فيها أو لعجز منه عن الكسب- فيباح له السؤال حينئذ ولا يحرم؛ ودليل ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجه مِن حديث أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنَّ المسألةَ لا تَصْلُحُ إلا لثَلاثَةٍ: لذى فَقْرٍ مُدقِعٍ، أو لذى غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذى دَمٍ مُوجِعٍ». والفقر المدقع هو الشديد، والغرم المفظع، أى: الغرامة أو الدين الثقيل، والدم الموجع المراد به: دم يوجع القاتل أو أولياءه بأن تلزمه الدية وليس لهم ما يؤدى به الدية، فيطالبهم أولياء المقتول به فتنبعث الفتنة والمخاصمة بينهم [عون المعبود للعظيم آبادى 5/ 38، ط. دار الكتب العلمية].

 قال الإمام النووى -رحمه الله- فى «المجموع شرح المهذب» (6/236، ط. المطبعة المنيرية): [وأما السؤال للمحتاج العاجز عن الكسب فليس بحرامٍ ولا مكروه] اهـ.

بل قد تكون المسألة واجبة فى بعض الصور؛ كفقير أو عاجز عن الكسب وحياته مرهونة بسؤاله الناس ما يقيمه فإن لم يسألهم هلك، وعليه يُحمل ما رواه أبو نُعَيم فى الحِلية عن سفيان الثورى: «مَن جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار».

وأما إعطاء المتسولين فليس على إطلاقه، بل هو منوط بغلبة الظن بحاجة السائل وصدقه، وإذا رأى المعطى أن يتحرى عن حاله فله ذلك خاصة فى أموال الزكاة التى أوجب الله صرفها لمستحقيها، وتظهر أهمية ذلك فى بعض الأماكن التى أصبح التسول فيها حرفة يتكسب منها أصحابها، بل مهنة تمتهن ويساق إليها الأطفال لتعلمها من صغرهم، ولا شك أن ذلك مؤشر خطر على أمن المجتمع وسلامته، وانتشار التسول وصيرورته ظاهرة هو دليل على تخلف الشعوب والأمم، وشاهد على قلة التكافل والتعاون فيما بين الناس. ويجب على الجهات المسئولة أن تبحث فى هذه الظاهرة وأسبابها؛ لتعمل على الحد منها بكفاية الفقراء والمحتاجين، ومنع من تسول له نفسه التسول والتعرض للناس من غير حاجة.