الجامعة.. بيت الداء "1"
عبد الله كمال
ينشر الآن زميلي محمد الشرقاوي، محرر شئون الجامعات ونائب رئيس قسم الأخبار، مجموعة من الحوارات المتعمقة مع عدد كبير من أساتذة الجامعة حول أحوالها وشئونها.. أو بالإجمال ما نسميه مشكلتها.. وبغض النظر عن أن المجتمع لم يعد يهتم إلا بالملفات شديدة الإثارة.. التي تتضمن قدراً ملموساً من النهش أو التنابذ.. فإن الملف الذي تتناوله الحوارات هو أحد أهم المعضلات التي تواجه مصر حالياً.. ولابد له من علاج.
الجامعة، باعتبارها من أهم معاقل التفكير في البلد، تعاني من مشكلات مختلفة، لا تقف عند حدود الزحام الرهيب وتراجع المستوي العلمي وضعف الخريجين، وتدني البحث العلمي، ولكنها تمتد من داخل الجامعة إلي خارجها.
فالخريج غير المؤهل بطريقة عصرية هو قنبلة جاهزة في وجه المجتمع.. قد ينفجر إحباطاً أو جهلاً.. والتطرف الذي أصبحت الجامعة حضانة تدريبه.. يتم تصديره إلي المجتمع علي نطاق واسع مصحوباً بمصداقية مفترضة في أساتذة الجامعات الذين يتحولون في كثير من الأحوال إلي رسل تطرف بدلاً من أن يكونوا أدوات تنوير.. والأهم أن النخبة غير المتحققة في الجامعة هي نفسها التي أصبحت أحد أهم منابر التوتير في البلد.. فمن الجامعة يخرج عشرات ممن يثيرون الجدل السياسي.. بل دعاة الفوضي.. وأساطين الهجوم علي نظام الدولة.
الجامعة هي إذن، وحالها هكذا، بيت داء.. بينما من المفترض فيها أن تكون بيت دواء.. وتحتاج إلي نظرة سياسية شاملة.. وتعديل جوهري في بنيتها.. وطريقة أدائها.. وتعامل الدولة معها.. والانتباه إلي خطورة أن تبقي علي حالها.. تدار بطريقة تسيير الأعمال.. وبدون نظرة استراتيجية شاملة.. يجلس فيها رؤساؤها يطمحون إلي مناصب أعلي.. محافظ أو وزير.. ويتطاحن فيها الأساتذة.. في ظل علاقات عمل وعلم غير متوازنة وغير ناضجة.. ويعاني فيها الدارسون.. إما يشحنون بالإحباط أو يدفعون إلي التطرف.
الموضوع أكبر من كون الجامعة لم تعد منبراً منتجاً للتفكير العلمي.. وأبعد من كونها لم تعد معاهد للبحث العلمي.. وأشمل من أنها تعبير حقيقي عن مشكلة مجانية التعليم في البلد.
وقد صدمني بالتأكيد أن عديداً من الذين حاورتهم "روزاليوسف« في مسلسل الأحاديث الذي ننشره الآن إنما ركزوا علي ضعف التمويل باعتباره المشكلة الأهم للجامعة.. وقد أتفق مع هذا.. ولكن المسألة أكثر تعقيداً منه.. الموضوع ليس محصوراً في الميزانية.. وفي أن الدولة تفضل أن تنفق علي الرغيف وتعطيه الأولوية.. بدلاً من أن تعطي نفس القدر من الاهتمام المالي لغذاء العقل.. وإذا كان تشخيص الأساتذة يقتصر علي هذه النقطة.. فإن هذا دليل أكيد علي أن الجامعة فيها داء سقيم.. مع كامل الاحترام لكل الأساتذة الذين تفضلوا وقبلوا دعوتنا للحوار والنقاش في الأمر.
يفترض في الجامعة أن تكون هي عقل البلد.. ويفترض في أساتذتها أن يكونوا هم ريادة تطورها وانطلاقها والكشف عن مشكلاتها.. لكنها بدلاً من أن تكون حلاً أصبحت مشكلة.. وبدلاً من أن تصبح وسيلة المجتمع في بلوغ تقدمه أصبحت أحد أهم أسباب تأخره.. ويكمن التعقيد الأهم في أن إرادة التطوير خالية من الطاقة المحركة الواجبة في عقول الأساتذة أنفسهم.. فقد تحول الكثيرون منهم إلي موظفين بدرجة أساتذة جامعة.. لا يملؤهم الإحساس بدورهم المحوري في المجتمع.. ولا تتفجر من داخلهم رغبة التقدم.. بل يتصارعون فيما بينهم بطريقة مثيرة للأسئلة والاستفهامات بحيث أصبحت الجامعة قاتلة للمواهب والقدرات أكثر من كونها مفجرة للطاقات والإبداع.
تغرق الجامعة في بيروقراطية مزعجة.. وتقيدها قوانين أقل ما يجب قوله عنها إنها بالية.. مدرجاتها مزدحمة ولكن معاملها أيضا خاوية.. تعاني من ضيق ذات اليد ومن مرتبات ضعيفة.. ولكنها أيضا تتميز بعدم الإخلاص والتفاني من أجل العلم.. تتعرض لارتباكات إدارية وضغوط التطرف السياسي.. وهي أيضا ميدان لاضطهاد الأجيال الجديدة.. وإن كانت هناك استثناءات تؤكد القاعدة التي نشير إليها.. لكن نقاط الضوء المتناثرة والتي تجسدها حالات فردية ليست هي التي يمكن أن تضيء المجتمع.. نحتاج شمسا لا مصباح غرفة.
لو كانت المشكلة تكمن في مجموعة قرارات علي الدولة أن تقوم بها وتصدرها.. لكان الأمر هيناً حتي لو بدا صعباً.. غير أن المزعج هو أن الأمر لا يقتصر علي هذا.. فالجامعة تحتاج أولاً إصلاحاً من داخلها.. يبدأ بأن يخلص أغلبية أساتذتها لفكرة الإصلاح ومضمونه وهدفه. ونكمل غداً.
البريد الإليكتروني : www.abkamal.net
الموقع الإليكتروني : [email protected]