الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الجامعة.. بيت الداء "5" رسالة من ألمانيا




لن أكتب اليوم،‮ ‬سوف أفسح المساحة إلي رسالة وصلتني من الدكتور عبدالحليم عبدالغني رجب،‮ ‬بجامعة بامبرج في ألمانيا‮.. ‬ولم‮ ‬يسبق لي أن عرفته‮.. ‬وفيما‮ ‬يلي نصها بعد اختصارات بسيطة جدًا‮: "‬أكتب هذه السطور في ظل اعتبارين‮: ‬الاعتبار الأول أنني من أبناء إحدي الجامعات المصرية العريقة،‮ ‬تعلمت وتخرجت وقمت بالتدريس وبالبحث العلمي فيها‮. ‬ولذا فأنا علي إلمام بالواقع العلمي في الجامعات المصرية‮. ‬والاعتبار الثاني أنني أقوم بالبحث والتدريس حاليا في واحدة من الجامعات الأوروبية المعروفة وأعيش هنا داخل الحدث العلمي والواقع التدريسي في الغرب‮.‬

تناول عبدالله كمال وضع الجامعة في مصر ووصفها‮ "‬ببيت الداء‮". ‬وما أظن أنه تجاوز الحقيقة بهذا الوصف‮. ‬ربما‮ ‬يكون هناك من‮ ‬يختلف مع هذا الرأي‮. ‬لكني عندما أقرأ قوله وتشخيصه الدقيق والصريح لا أجد أبدًا أنه جانب الصواب في أي كلمة دفع بها‮.‬

أعجبني قوله‮: ‬إننا نعيش‮ "‬في عصر لم‮ ‬يعد فيه علم بعيد عن‮ ‬غيره‮.. ‬والثقافة متشابكة‮.. ‬والمعارف تتفاعل‮.. ‬ولا أستطيع أن أثق في أن عددًا كبيرًا من الأساتذة قد دخلوا مكتبات كلياتهم وجامعاتهم منذ سنين‮.. ‬هذا إن قرأ‮ ‬غالبيتهم الصحف اليومية‮".‬

ما‮ ‬يقوله عبدالله كمال في هذه الفقرة هو بنفسه‮ "‬الداء‮" ‬الذي‮ ‬يتحدث عنه،‮ ‬وهو في نفس الوقت ومن زاوية أخري الوصفة الأوروبية العلمية لمهنة العلم ومزاولته‮. ‬ولا أظن أن الكاتب قد تجني بوصفه هذا علي أي من الأساتذة‮.‬

إننا فعلا نعيش في عصر لم تعد فيه العلوم بعيدة عن بعضها البعض‮. ‬المعارف تتشابك مع بعضها البعض،‮ ‬ولم تعد الحدود التقليدية للتخصصات ذات أهمية‮. ‬الأمر السائد هو نسف هذه الحدود التقليدية نسفا‮. ‬ونظرًا لأني قادم من محيط العلوم الإنسانية أستطيع باطمئنان أن أتكلم عما هو سائد معرفيا داخل هذه المنظومة‮.‬

من‮ ‬يستطيع دراسة الأدب دون معرفة علم الهرمنيوطيقا،‮ ‬ومن‮ ‬يتسني له معرفة الهرمنيوطيقا دون دراسة التراث الفلسفي في الشرق والغرب‮. ‬والفلسفة في الثقافات والحضارات لم تنشأ بمعزل عن المعارف الأخري‮. ‬لا‮ ‬يمكن لعالم دين مثلاً‮ ‬أن‮ ‬يقوم بتفسير القرآن الكريم دون الإلمام بكل هذه المعارف‮. ‬لذا الاتجاه هنا في جامعات الغرب هو دراسة هذه المنظومة التشابكية المعرفية التي‮ ‬يتحدث عنها عبدالله كمال‮.‬

وقد اشتق الغرب خصيصًا لهذا النهج البحثي مصطلحا‮ ‬يجمع فيه هذا التشابك المعرفي ويطلق عليه اسم‮ "‬النظم المعرفية البينية‮" ‬إن صحت الترجمة‮. ‬فأين الجامعة المصرية من كل هذا اليوم؟ لقد وضع عبدالله‮ ‬يده علي الداء،‮ ‬بعد أن أصبح الهم الأوحد لأساتذة الجامعة في مصر والمترقين فيها هو جمع القصاصات والاقتباسات من هنا وهناك وتنميقها كي تصبح بحثا للترقية لا أكثر ولا أقل،‮ ‬أو كتابا‮ ‬ينشر،‮ ‬دون أن‮ ‬يعاني صاحب هذا‮ ‬البحث أو ذلك الكتاب المشكلة العلمية في حد ذاتها ودون أن‮ ‬يكابد مشقتها‮. ‬
هناك قصص كثيرة تروي عن أساتذة‮ ‬يطلبون من تلامذتهم كتابة الكتب والأبحاث التي تنشر تحت أسمائهم فيما بعد‮. ‬هذا هو للأسف الوضع الواقعي للبحث العلمي في جامعاتنا،‮ ‬وهو الوضع الذي‮ ‬يجب أن نتكلم عنه صراحة،‮ ‬إن بغينا إصلاحا‮.‬ عندما عاد طه حسين من فرنسا بعد حصوله علي الدكتوراه عن ابن خلدون،‮ ‬قام بتدريس الأدب اليوناني والروماني‮.
 ‬لم‮ ‬يقل طه حسين وقتها إنه متخصص في الأدب العربي فقط‮! ‬لقد بني الرجل نفسه علميا بصورة موسوعية شاملة جعلته كفئًا لأن‮ ‬يكون فارسا في كل ناد‮. ‬أشفقت كثيرًا علي الدكتور أحمد زويل عندما طالب بوجود‮ "‬المجتمع العلمي‮". ‬والمقصود هو ذلك المناخ العلمي العام،‮ ‬السوق ـ إن جاز التعبير ـ التي تعرض فيها السلع العلمية أمام كل منتقد وكل متنافس،‮ ‬تماما مثل السوق في مجال التجارة‮.‬

لم‮ ‬يخطئ عبدالله كمال عندما كتب‮: "‬أنت‮ ‬يمكن أن تقابل أساتذة جامعة الآن مستواهم العلمي لا‮ ‬يرقي لمستوي الخريجين الذين‮ ‬يدرسون لهم‮. ‬بعضهم‮ ‬يفتح فاهه مندهشا حين‮ ‬يسمع أمرًا عامًا‮.. ‬لأنه لا‮ ‬يعرف شيئًا خارج المقرر الذي‮ ‬يدرسه‮.. ‬هذا إذا سيطر علي أبعاده وتمكن منه‮".‬

وذكر في مقاله قصة الدكتور نصر حامد أبوزيد‮. ‬كان من حسن حظي أن التقيت الدكتور نصر أبوزيد في أكثر من مؤتمر علمي‮. ‬وأدهشني الرجل كثيرًا بتواضعه أولاً‮ ‬وبخفة دمه وروحه المصرية الأصيلة وبعلمه الغزير‮. ‬ليس نصر أبوزيد مجرد باحث في علوم القرآن،‮ ‬بل هو مشروع علمي تأويلي متكامل‮ ‬يتحرك علي رجلين‮. ‬هذه هي المشاريع التي تحتاجها الجامعة في مصر‮. ‬وهذا هو المجتمع العلمي الذي‮ ‬ينادي به زويل‮. ‬وهذه هي موسوعية طه حسين‮.‬

لا‮ ‬يوجد حل للجامعة المصرية إلا بتحررها من أبحاث القصاصات واللصق والتنميق‮. ‬ومن لا‮ ‬يستطيع التجديف في‮ ‬غمار بحر العلم،‮ ‬فالغرق أشرف له،‮ ‬ويكفيه شرفا أنه قضي في بحر العلم‮".‬
 انتهت الرسالة‮.. ‬وأكمل‮ ‬غدًا‮.‬
 
الموقع الإليكتروني : www.abkamal.net
البريد الإليكتروني   : [email protected]