الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

"عاملين قلق"!




شارع القصر العيني ـ تقاطع شارع الشيخ ريحان‮: ‬الساعة الواحدة والنصف ليلاً عشرات من العمال التابعين لإحدي الشركات نائمون بالأغطية علي رصيف مجاور لمبني المجمع العلمي المصري علي بعد خطوات من مجلسي الشعب والشوري‮.. ‬بعض المتراصين متيقظون يدخنون في الفراش المترب‮.. ‬حولهم بضعة عساكر شرطة في وردية صحيان لمتابعة الاعتصام أمنياً‮ ‬بهدوء‮.‬

قبل هذا بأربع أو خمس ساعات كنت أجلس علي مقهي‮ "‬فيينا‮" ‬حيث اعتدت منذ زمن بعيد،‮ ‬مجموعة من نفس العمال كانوا يدخنون الشيشة ويلعبون بأوراق الدومينو الخزفية‮.. ‬وبينهم من يقارع آخر علي الطريقة المصرية‮: ‬لما تبقي تعرف تلعب ابقي تعالي اقعد أمامي‮.‬

جاءه تليفون أخرج الموبايل من جيب صديري فلاحي تحت الجلباب الصوف بعد أن عبر بذراعه إلي الجيب متخطياً‮ "‬شال‮" ‬ثقيلاً‮ ‬يشبه سجادة‮.. ‬المتصل شخص لا أعرفه بالطبع خاطبه المتلقي باسم الحاج صابر‮.. ‬وهكذا دار الحوار الذي سمعته بدون تعمد،‮ ‬فقد كان صخب مكالمته عالياً‮:‬ أهلاً‮ ‬يا عم الحاج صابر‮.. ‬شغل؟‮.. ‬بكرة؟‮. ‬لا‮.. ‬لن ينفع‮.. ‬نحن في مصر‮ "‬يقصد القاهرة‮".. ‬عاملين اعتصام‮.. ‬آه‮.. ‬كلنا‮.. ‬قلنا نيجي مصر ناخد حقوقنا‮.. ‬شوية كده يا عم الحاج‮.. ‬آخر ما زهقنا جبنا العيال تنام معانا في الشارع‮ "‬يضحك‮".. ‬آه‮.. ‬عاملين قلق يا عم الحاج‮.. ‬طيب‮.. ‬حاضر‮.. ‬نخلص وأنزل معاك الشغل‮.. ‬لكن لما أنزل المرة الجاية هاكون صنايعي مش عامل‮.. ‬أيوه صنايعي يا عم الحاج‮.. ‬لكن إذا جيت لك مكسور ولا حاجة‮ "‬ضاحكاً‮" ‬ماتكملش عليا‮.. ‬ماشي‮.. ‬بالسلامة يا عم الحاج‮.‬

انتهت المكالمة‮.. ‬أعاد الموبايل إلي جيب الصديري‮.. ‬وعاد مجدداً‮ ‬لمواصلة لعب الدومينو‮.. ‬لحظتها اعترف من هو أمامه بالهزيمة‮.. ‬وقام ليبدل مع آخر‮.. ‬بينما كانوا يتسلون ببعض حبات اللب‮.‬

وبالطبع ليس لدي اعتراض علي الاعتصام‮.. ‬هذا حق قانوني‮.. ‬مادام التزم بقواعد القانون‮.. ‬وليس من بين تلك القواعد أن يكون الاعتصام في أي مكان‮.. ‬بل أنه يكون في موقع العمل‮.. ‬ووفقاً‮ ‬لضوابط محددة‮.. ‬ولكن المودة التي تعمل الحكومة علي زيادتها بهذا التراخي الودود في التعامل مع تلك الأحداث‮.. ‬هي أن ينتقل العمال إلي حيث يوجد مربع السلطة‮.. ‬وبالطبع لكي تكون الكاميرات التليفزيونية قريبة من مشهدهم‮.‬

الخطأ الجوهري هو أن الجهات المختصة عمالياً‮ ‬لم تحتسب للتصعيد‮.. ‬ولم تعالج المشكلة في مقرها البعيد‮.. ‬فجاءت إلي القاهرة‮.. ‬والمشكلة الثانية أنه لابد ألا يكون موقع مقر السلطات التشريعية والتنفيذية في وسط المدينة‮ "‬هايد بارك‮".. ‬يأتي إليه العمال من مصنع تلو آخر لكي‮ "‬يصنعوا القلق‮".‬

طبعاً‮ ‬رأيت من قبل علي نفس المقهي عدداً‮ ‬من عمال طنطا للكتان وهم يتابعون صورهم في البرامج علي شاشة تليفزيون المقهي‮.. ‬ويبدلون المحطات تلو بعضها‮. ‬وها هو فريق آخر يتناوب أفراده الاعتصام بينما يقضي بعضهم الوقت علي المقهي‮.. ‬ولكن المدهش أن من هاتف الحاج صابر أمامي لديه‮ "‬شغل‮".. ‬ورغم أنه مقيد علي العاملين في مصنع المعتصمين إلا أنه يعمل خارجه‮.. ‬وها هو بدوره يرفض العمل المعروض عليه إلي أن ينهي اعتصامه بشأن العمل الحكومي‮.‬

هناك خلل في العلاقات‮.. ‬وفي ثقافة العمل‮.. ‬وليس هذا هو العامل الوحيد الذي يعمل بطريقة ما لدي جهة إنتاج حكومية وطالته إجراءات التصحيح‮.. ‬بينما لديه عشرات من فرص الأعمال الأخري‮.. ‬خبرته التي تجمعت في مصانع الحكومة أصبحت مطلوبة في السوق‮.. ‬لكنه يريد أن ينال ما يعتبر أنه حقه‮.. ‬ولو وصل الأمر إلي حد صناعة القلق في القاهرة‮.‬

هذه نتائج ميراث قديم ومتراكم‮.. ‬لكنه كذلك نتيجة لعدم الحسم في التعامل وإنهاء المتعلقات في مهدها وموطنها‮.‬
 
الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net

البريد الإليكترونى  : [email protected]