البلد.. بلدان
عبد الله كمال
إحدي مشكلات البلد الأساسية أن له معايير تتناقض أحيانا كثيرة في نفس الأمر.. وأنه لكي يهرب من حل مشكلة.. بحيث لا يتضايق المجتمع.. يلجأ إلي تفريعات جانبية.. فيبدو كما لو أنه (مالتي سيستم).. وليس هذا دليل تنوع وتعدد.. بقدر ما هو مؤشر قوي علي أن القواعد في أغلب الأحيان مزدوجة.. وأننا لا نريد أن نواجه المشكلات بالطريقة الواجبة.. فنهرب منها (بأي باص).. نلتف حولها.. بدلاً من أن نقطع الطريق عليها.
قانون الإيجار.. قديم وجديد.. فقد ابتدعنا الجديد.. الذي يبدو إلي حد بعيد عادلاً.. لكننا لا نريد أن نضع حلاً عاجلاً لمشكلة قانون الإيجار القديم الذي يظلم الساكن والمالك معا.. الساكن لا يحصل علي كل حقوقه.. والمالك لايهنأ بريع أملاكه التي تدر ملاليم.
التاكسي في شوارع القاهرة.. ثلاثة.. أبيض وأسود.. وأبيض فقط.. وأصفر.. لكلٍّ سعر.. ولكلٍّ طريقة.. القواعد مختلفة.. لا الحكومة تريد أن تفرض نظاماً.. وإن كانت تريد التحديث.. ولا يمكنها أن تواجه المشكلة بشكل مباشر.. فترتضي في نهاية الأمر أن يزيد عدد السيارات في الشوارع المزدحمة أصلا.. حتي لو كان شرط ترخيص التاكسي الأبيض هو أن يتخلص صاحبه من تاكسي أبيض وأسود.
المساجد أنواع.. أهلية وأوقاف.. وزوايا لا رقيب عليها.. هذه يبنيها أصحابها من تلقاء أنفسهم.. وتلك تبنيها الحكومة أو تضم إليها من مساجد الأهالي.. والأخيرة تنشأ لمجرد الرغبة من شخص عابر.. يعتقد أن هذا سوف يزيد ميزان حسناته.
الدعاة.. جدد وقدامي.. محدثون وتقليديون.. أتحدث عن الشكل والطريقة وليس عن المضمون.. فبين التقليديين والمحدثين متطرفون. وبين الفريقين من يمكن أن تطلق عليهم صفة الاعتدال.
لقد صادفت هذا الازدواج العظيم أول مرة في حياتي حين كنت طالباً في الصف الأول الثانوي.. بمدرسة النقراشي.. مدرسة مجانية ذات تاريخ عريق.. وكان لها رونق افتقدته بمضي الأيام.. وقتها أرادت الإدارة أن تستفيد من رياح الثراء المتصاعد بين بعض فئات المجتمع.. فقررت أن تؤسس فصلا خاصاً.. له مواصفات مميزة.. يخصص للطلبة الميسورين.. وتمول من ريعه بعضاً من الأنشطة الأخري.. ومن ثم صار علي كل طالب يريد أن ينضم لهذا الفصل الذي تقرر له أن يكون كل مدرسيه من الأوائل المشهورين أن يدفع خمسين جنيها.
انهالت الطلبات من عشرات الطلاب علي الفصل.. وبدلاً من أن يستوعب أربعين تلميذاً.. بلغ المنتظرون مائة.. وأضيف إلي أولي خامس فصل جديد اسمه أولي سادس.. ولولا الملامة لكان في الطريق غيرهما أربعة آخرون.. وأصبحنا نعاني نفسياً وعملياً من أننا لا ننتمي إلي أي من الفصلين.. ونظن أن ما يدرسه زملاؤنا فيهما يختلف تماما عما ندرسه في فصولنا العادية غير المتبرعة.. ولم تفعل الإدارة التعليمية شيئا لمدرسة النقراشي لكي تغير من هذا الوضع الشاذ.
الازدواج أصبح قاعدة.. والالتفاف هو الطريقة.. وفي البلد سلع لها سعران.. وخدمات لها أيضا سعران.. خبزان.. ومياهان.. واحدة معدنية وأخري من الحنفية.. وتليفون أرضي له طريقان: لاسلكي يشبه المحمول.. وسلكي مثل الأرضي المعتاد.. ومواصلات عامة: خضراء وحمراء وزرقاء.. كل له سعره.. بخلاف طبعا إمبراطوريات الميكروباص المتناثرة التي تنافسها بدورها إمبراطوريات أقل حجما.. اسمها التوك توك.
لابد أن يكون المعيار واحداً.. والقاعدة واحدة.. والخدمة واحدة.. والسعر واحدا.. والقانون في كل الأحوال واحدا.. هذا أساس العدل.. وسد الثغرات.. ورتق الثقوب.. وقطع الطريق علي التفاف المواطن الذي يمكن أن يلتف به علي التفاف الحكومة.. وحين يكون هذا واقعاً.. فإنه لن توجد في مصر أحزاب شرعية تنافسها حركات غير شرعية.. ولن يجد حزب الوفد نفسه في مواجهة شيء مثل كفاية.. ولن يجد حزب التجمع كيانه في مواجهة جمعية مثل تلك التي تقول إنها تدعو للتغيير في حين أن كل شخوصها (بايتين).
الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net
البريد الإليكترونى: [email protected]