من الظالم؟
عبد الله كمال
تصلني تعليقات يومية علي ما أكتب.. نعمة كبيرة.. حتي لو كانت فيها آراء تختلف مع ما أكتب.. وفي أحيان كثيرة يستحق ما يصلني التوقف.. وكثير غيره أحتفظ به وأشحن نفسي بمحتواه لكتابات فيما بعد.. ومن المدهش أن مقالي بالأمس (البلد.. بلدان) أثار تساؤلات وانطباعات بين قرائه.. بطريقة نقلتني في بعض المرات إلي أفق لم أكن أعنيه مباشرة.
لمن لم يقرأ كنت أتكلم عن ضرورة ألا تكون المعايير مزدوجة.. وأن القوانين حين تتعرض لمشكلات يجب أن تكون واحدة.. وأن الخدمات لابد لها أن تكون متوافرة بنفس درجة الكفاءة لكل الناس بسعر واحد.. لا أتحدث عن شيوعية ولكن عن أبسط قواعد العدالة.
مثلاً، الصديق الأستاذ عبدالفتاح الجبالي الخبير في مركز الأهرام، تكلم معي معلقاً عن أهمية توحيد أنظمة التعليم وخدماته.. وقال: التعليم الواحد ينتج أجيالاً قادرة علي أن تتفاهم وتتحاور علي أرضية واحدة.
وهذه فكرة عميقة جداً.. أوافق الجبالي عليها.. ومن المدهش أنها تعبر عن تفكير يسعي إلي أهدافه حزب الأغلبية منذ سنوات.. لكنه يواجه عنتاً بيروقراطياً.. وتعقيداً مجتمعياً.. ورفضاً ثقافياً.. وربما طائفياً.. فضلاً عن كسل تنفيذي.
وفي سياق عرضي لمقال الأمس استنتج البعض ما لم أقصده.. مثلاً أنا كنت أقول (البلد.. بلدان).. بمعني أنهما اثنان.. لكنني فعلياً لم أقل أنهما (بلاد).. كما تخيل البعض أنني ضد نظام التاكسي الجديد.. في حين أنني أؤيده جداً.. وأراه نوعاً من التقدم الحقيقي.. وظن آخرون أنني أقول إن البلد (ظالم).. وأنا لم أقل هذا.. قلت إن المعايير مزدوجة.. وأن تعددها يؤدي إلي عدم الإحساس بالعدل.. والأهم في الفكرة التي ينبغي أن أوضحها اليوم.. أن الدولة لأنها لا تريد أن تزعج قطاعات من الناس.. تبتدع هذه الالتفافات.
دعنا نستفد من هذا الأمر وننقل المسألة إلي ما هو أبعد.. الدولة لديها رؤي براقة جداً.. أنت لا تتخيل حجم الأفكار التي أسمعها وأقرؤها وأطالع عنها بشأن التطوير في مجالات مختلفة.. أنت أيضاً لا تعتقد أن أحداً يمكن أن يقف ضد الإصلاح في مجالات عديدة.. منها التعليم والصحة.. وغيرهما.. دعك من المجالات الاقتصادية حتي لا يقول أحدهم إن الدولة تحابي الفاسدين وفقاً لمنظومة الردود الكلاسيكية المحبطة.. ولكن هذه الرؤي حين تقترب من سياق التطبيق يخرج لها ألف معطل ومعرقل.. أشخاص واتجاهات وظروف معقدة جداً.
انظر إلي الجانب الآخر من القمر.. لنعرف أن المشكلة ليست في الدولة وحدها.. المجتمع أيضاً يرفض أي اقتراب من مصالح فئاته بما يؤدي إلي منع أي تطوير.. مثلاً سكان العشوائيات لا يريدون أن يغادروها حين تتاح الفرص إلا بخلع الضرس.. وفي كثير من الأحيان يرفضون أي تطوير يؤدي إلي المساس بشبكات الأوضاع والعلاقات الاجتماعية المستقرة حتي لو كانت فاسدة.. ومليئة بالمشكلات.. وحتي لو قبلوا فإنه تحدث آثار سلبية أخري.
قد يدهشك أن تعرف أن عملية نقل ضحايا صخرة الدويقة إلي أحد المشروعات السكنية الخاصة.. علي نفقة الدولة.. أدت إلي عزوف أبناء الطبقة المتوسطة عن السكن في المشروع.. ما يعني أن هذه الفئات التي تتحدث عن العدل وتطالب به ترفض الاندماج مع من تطالب لهم بالعدل.. وتصرخ من أجلهم.. أليس هذا مزعجاً؟
طيب.. كثير من المواطنين تزعجهم أصوات مكبرات الصوت في المساجد عند الفجر.. لكن هؤلاء لم يساندوا وزير الأوقاف حين رغب في أن يطبق نظاماً للأذان الموحد.. فكرة عمرها خمس سنوات ولا تنفذ حتي الآن.
وخذ عندك: كادر المعلمين شروطه واضحة جداً.. أن يجتاز المعلم اختبارات الترقي فيحصل علي مقابل مالي.. لكن هذه الفكرة لم تطبق حقاً بسبب الاعتراضات العنيفة.. فحصل المعلمون علي الفلوس لكننا لم نحصل بعد علي الفائدة الأهم وهي أن يضيف هذا إلي تطوير التعليم.
وأزيدك من الشعر بيتاً: الكل يعاني من التأمين الصحي.. ونظامه.. لكن مجرد طرح فكرة تطويره تقابل بمنتهي العنت من عشرات الفئات.. وحملة شعواء حتي قبل أن يعرفوا نصوص القانون المقترح لإحداث نهضة أكيدة في الخدمة التي يطلبها الجميع.
وهكذا.. إذن العبء مشترك.. الدولة والمجتمع.. الكل يتحدث عن التغيير..لكن لا أحد يريد التغيير حقاً.. الجميع يريد التغيير بعيداً عن مصالحه.. ولو مسه فإنه يرفضه ويحاربه.. ولذا فإن الدولة تلتف في كثير من الأحيان لعلها تفلت ببعض التقدم خارج غابة الاعتراضات.
وبعد كل هذا يكلمونك عن التغيير.. أليس ذلك مضحكاً.
الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net
البريد الإليكترونى: [email protected]