السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

كسر الرقبة




لابد أن هذا الخبر قد أدهشك.. وصدمك.. إن كنت قد قرأته كما فعلت أنا: أم أمريكية عاقبت ابنها بأن أجبرته علي حمل لافتة تحمل اعتذارا لمدرسه.. لمدة ثلاث ساعات في الشارع. التلميذ عمره 11 سنة.. وصف مدرسه بأنه (أخرق).. والأم وجدت في ذلك ــ كما لا شك يجب أن تجد أي أم مربية ــ أن في ذلك عدم احترام.. وعليه بالتالي أن يعتذر بطريقة لا تنسي.. فأوقفته باللافتة في شارع مزدحم.. مكتوب عليها تفصيل ما حدث وطلب الاعتذار.

ولو لم تفعل لكان الأمر قد انتهي ولم يكن أحد قد علم به.. وربما كان قد عاقبه المدرس.. وربما مر الموقف.. لكن الأم لم تمرره.. وأصرت علي هذا العقاب الفريد.. الذي يذكرنا بأيام كان التعليم في مصر مقترنا بالتربية.. وهذه الملاحظة لها علاقة بالطبع بما كتبت بالأمس حول قرارات وزير التعليم في حلوان.. وكيف احتج عليها التلاميذ في اليوم التالي.. بدون أن نسمع من الآباء والأمهات حساً ولاخبراً.

نعم التعليم في مصر يعاني من أزمة.. ولكن البيوت أيضا تعاني من أزمة مماثلة إن لم تكن أشرس وأصعب.. التربية لم تعد كما كانت.. الحسم الذي كنا نربي به أبناءنا افتقدناه.. والحزم لم يعد له وجود.. واحترام الكبير أصبح بضاعة نادرة.. وهذه الأمريكية لم تقرأ بيت الشعر القائل (قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا).. ولكنها تعمل به أكثر من أي مصري ينتمي هذا البيت إلي تراثه.

التلاميذ يقومون الآن للمعلم لكي يناطحوه.. ويبارزوه.. وفي صفحات الحوادث والجريمة ما يفيد يوميا أنهم يقومون لكي يضربوه.. وربما يطعنوه بالمطواة.. وهذا إذا كان يعبر عن مشكلة تعليمية فإنه يعبر أيضا عن مشكلة أسرية عميقة في مختلف أنحاء المجتمع.

أتصور أن بعض أولياء الأمور لو عرفوا أن ابناً لهم وبخ مدرساً لامتدحوه أو علي أقل تقدير صمتوا.. وأظن أن بعض الآباء قد يشجعونهم علي التمرد علي تعليمات الضبط والربط في الفصول.. ورحم الله أبي الذي كان يراجع كشوف الغياب بنفسه.. ورحم زمناً كانت فيه العائلات تذهب إلي المدارس لمطالبة المدرسين بأن يكسروا رقبة أبنائهم التلاميذ.. طبعا ليس المقصود هنا كسر الرقبة بالمعني المباشر وإنما مطالبة الأساتذة بمزيد من الحزم مع أبنائهم وتلقينهم المعرفة ولو بالقسوة.

البيوت أصبحت أكثر رخاوة.. بل إن بعض الأبناء لم يعودوا علي احترامهم التقليدي لآبائهم.. المسألة فيها كثير من الانفلات.. ومشكلة الفوضي التي نراها في الشوارع والمدارس لها أبعاد في البيوت.. ولو شئت التحليل فسوف أقول لك إن الأمر يتعلق بأن الآباء مشغولون في السعي إلي لقمة العيش.. وأن السلطة الأبوية بنيت في أغلب الأسر المصرية علي أساس أن الأب هو الراعي المالي أكثر من كونه الراعي الاجتماعي.. وحين تهتز هذه السلطة المالية تهتز معها قدرة الأب علي أن يربي بنفس الطريقة القديمة.

وللمسألة وجه آخر في المدارس.. فحين كانت سلطة المدرس تقوم علي أساس أنه يمتلئ بالعلم ويعطي للتلميذ من معينه.. كان التلميذ يخضع ويستمع.. الآن المدرس يبخل.. ويفر من الفصل.. ويهرب من المدرسة مثل التلميذ الذي يعُلمه.. ولا يعطي علمه إلا لمن يدفع له في الدرس الخصوصي.. ولذا فإن التلميذ يعتقد أن له اليد العليا.. وأنه يشغل المدرس.. لأن المدرسين صاروا بضاعة مطروحة في السوق تخضع لطلب التلاميذ.. وبيد الصغار أن يقرروا أن هذا يتوافق مع أمزجتهم وذاك لا يناسبهم.. فكيف يمكن له أن يحترمه؟!

حين يشرب المدرس الشاي في بيت التلميذ لن يمكنه أن يسيطر عليه في الفصل.. فما بالك لو أنه كان يطعمه ويؤجره؟! هل يمكن أن يذهب ولي أمر لكي يطلب من المدرس أن يكسر رقبة ابنه - بالمعني المجازي طبعاً - بالتأكيد لا.. بل سيقول ولي الأمر لابنه: غيره.. وادفع لآخر.
 
الموقع الاليكتروني :  www.abkamal.net
البريد الاليكتروني :    [email protected]