الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

6 أيام فى أرض كنعان




القدس ورام الله : أيمن عبدالمجيد
التسامح يتجسد فى أرض المرابطين
 
هنا فى أرض كنعان، يقف التاريخ ممشوق القوام، يهتف فى زائريها، أن تحسسوا الخطى، عسى أن تطأ أقدامكم موضع قدم نبى، أو تدوسون تراب شهيد، ضحى فى الصراع الأبدى، هنا ترنيمة داود، وبشارة عيسى، مهد المسيح، دعوة إبراهيم، ومعراج محمد (ص)، هنا صلى خاتم المرسلين بالأنبياء أجمعين، ها هم انظروا ماذا سطر من ٣٠٠٠ آلاف عام قبل الميلاد، حيث عاشت قبائل كنعان العربية، صفحات التاريخ تدحض مزاعم عصابات الصهيونية. عُرفت «فلسطين» منذ القدم بأرض «كنعان جزء من بلاد الشام، وواجه أهلها العرب موجات الغزو المتوالية، وردت فى بعض الآثار الآشورية فى عهد الملك الآشورى «أدديزارى الثالث» نحو عام (800 ق.م ) - هو «فلستيا»، فقد وُجِدَ محفورًا على مسلته أن قواته تمكنت من إخضاع «فلستو» palastu فى السنة الخامسة من حكمه، وأجبرت أهلها على دفع الضريبة. ومن الآشوريين إلى الرومان والفتح العمرى، والغزو الصليبى، وتحرير صلاح الدين الأيوبى، إلى نكبة ١٩٤٨ ونكسة ١٩٦٧ سرطان الصهيونية العالمية الذى لا يزال يتمدد ملتهما ما تبقى من أرض عربية فى شكل منهوبات تسمى مستوطنات. تيودور هرتزل أو « theodor Herzl» باللاتينية، أما بالعبرى فكان اسمه « بنيامين زائيف» والاسم المجرى « تيفا دارا»، اصدر كتيبًا صغيرًا فى ١٧ يونيو ١٨٩٥ بعنوان «der juenstaat» «دولة اليهود» ليضع بذلك حجر الأساس للصهيونية العالمية وتسييس لليهودية، وجاب البلدان يقنع اليهود بالانضمام والدعم للمنظمة للبحث عن أرض يحتلونها ويتجمعون من أرجاء العالم فيها، محرضا على مقاومة الاندماج فى اوطانهم الاصلية، فكانت الاستجابة من رجال المال والدين والسياسة، وعقد المؤتمر الأول فى مدينة بازل السويسرية على مدار ٣ أيام اختتمت ٣١ اغسطس ١٨٩٧ وانتخب هرتزل رئيسا للمنظمة الصهيونية العالمية، ليبدأ محادثات مع ملوك أوروبا بحثا عن مؤيدين للمشروع الصهيونى وقطعة ارض ينهبونها. كانت الخيارات فى إفريقيا أوغاندا او قبرص أو سيناء أولا، غير أنهم استقروا على فلسطين لإحداث توافق بين المتشددين دينيا والمسيسين، ولأنها ملتقى طرق أوروبا وآسيا وإفريقيا.

نجح الصحفى الصهيونى فى تحقيق هدفه.. ذهبت إلى أرض المرابطين فلسطين، حيث حفر التاريخ بصماته، وها أنا عائد من القدس أسطر ما رصدت من فصول المأساة.

مع ميلاد كل يوم جديد، وفى الرابعة فجرًا يستيقظ وجيه يعقوب نسيبة، مسلم الديانة، لفتح أبواب كنيسة القيامة بالقدس القديمة، وهى الكنيسة الأعرق لدى مسيحيى العالم، والتى يعتقد المسيحيون أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام صلب بها، وعذب وسجن.. طريق الآلام وهو شارع ضيق، يعتقد المسيحيون أن المسيح سار فيه حاملا الصليب، يأخذك بانحدار تدريجى إلى مسجد سيدنا عمر بن الخطاب، الذى بناه خليفة المسلمين بعد فتح القدس، وما هى إلا خطوات معدودة تقطع بها قرابة ٥ أمتار فقط لتجد نفسك فى الكنيسة الأهم فى العالم.

وفى الثامنة مساء يتولى نسيبة غلق أبواب الكنيسة لحمايتها والرهبان من اعتداءات المتطرفين اليهود، «تسلمت عائلتى مفاتيح الكنيسة من بطريرك القدس للروم صفرنيوس عام ٦٨٣ ميلادية بعد أن فتح عمر بن الخطاب رضى الله عنه القدس، إلا أن الصليبيين نزعوا المفاتيح من العائلة بعد استيلائهم على المدينة، لتعود المفاتيح لعائلتى مرة أخرى بعد تحرير صلاح الدين الأيوبى للقدس ١١٨٧ ميلادية، لخلاف بين الطوائف المسيحية حول من يحتفظ بالمفتاح ووافق الجميع على أن يوكل به إلى عائلة مسلمة».. يقول وجيه:

عائلة نسيبة ليست وحدها المشرفة على الكنيسة فمعها عائلة جودة التى حصلت على فرمان من السلطان العثمانى ١٦١٢ ميلادية يقضى بانضمامها لعائلة نسيبة فى الإشراف على الكنيسة المقدسة، لتنتقل المفاتيح إلى عائلة جودة المسلمة أيضاً عام ١٦٢٤، وظلت عائلة نسيبة المسئولة عن غلق وفتح الكنيسة.

فناء متسع يصحبك عبر درج لمدخل الكنيسة العتيقة، وقف المئات من مختلف الجنسيات فى مجموعات، يشرح لهم مرشدوهم تاريخ كل ركن بالكنيسة، بينما الخشوع كشعاع يربط بينهم ويبدو على ملامح وجوههم ولغة جسدهم، خلف الباب مباشرة، على اليمين، ممر ضيق بعرض نصف متر، يحملك درجه سلم حجرى، بزاوية ميل حادة جداً تشعرك بالخطر، صعودا لارتفاع يقارب الخمسة أمتار للوصول إلى كنيسة «الجلجلة»، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى حجر الجلجلة الذى يعتقد المسيحيون أن المسيح عيسى عليه السلام صلب عليه، وفى العقيدة الاسلامية صعد المسيح حيًا إلى السماء.

حاجز من السلاسل المذهبة، خلفه يقبع الحجر وسط غرفة صغيرة مفتوحة تزدان بالستائر الحرير المذهبة والقناديل النحاسية، والشموع، وقفت فتاة أوروبية فى الثلاثين من عمرها، ضمت كفى يديها اسفل ذقنها إلى صدرها، وتمتمت فى خشوع بصوت غير مسموع، لكن ما كانت تذرفه من دموع يخبر ببلوغها قمة الشوق، فيما وقف راهب يحث الزائرين على الإسراع بالحركة للخروج من الباب المقابل ليتمكن آخرون من الزيارة، لكن التقاط صور بالمكان كان ما يحرص عليه الكثيرون، والشموع كانت الهدية التى يحرص الجميع على إشعالها والدعاء بما يحلم به من أمنيات.

عبر سلم لا يتسع إلا لفرد واحد بالكاد ومن ارتفاع ٥ أمتار بما يقارب الثلاثة طوابق نزلت خلف الزائرين من كنيسة الجلجلة، إلى كنيسة القبر المقدس، وبجوار السلم ساحة، بها حجر مستطيل بطول قرابة ٢ متر وعرض ٨٠ سم، يلتف حوله رجال ونساء بينهم شباب وشيوخ، ينبطحون على الأرض ويقبلونه ويبتهلون بالدعاء وسط نوبات بكاء، ويتبرع من يشاء للكنيسة بما جاد به من مال، وهو الحجر الذى يعتقدون أن المسيح حمل عليه بعد الوفاة بحسب معتقد كثير من مسيحيى العالم.

المئات يقفون فى طابور طويل، أحدهم حاول أن يزور متخطيا دوره قال القس: «لا يوجد وساطة فى الزيارة التزم دورك» كثيرات هن من يدخلن الغرفة الأشبه بالقبو لانخفاض ارتفاعها وتخرجن باكيات بحرقة فيما يحاول الزوج أو الابن التخفيف عنها، أنه المكان الذى يعتقد كثير من المسيحيين أنه قبر المسيح، وبالكنيسة سجن يقال إن المسيح سجن به قبل الصلب، وسميت الكنيسة بالقيامة وهو ذاته اسم العيد الأبرز لدى المسيحيين للاعتقاد بأن المسيح عليه السلام قام بعد ان قتله اليهود بثلاثة أيام، وفى الإسلام «وما قتلوه وما صلبوه ولكن خيل لهم».

وخلف القبر كنيسة مارية المصرية، وهى كنيسة تابعة لمصر وكل رُعاتها مصريون تابعون للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، يرسمهم بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية البابا شنودة قبل رحيله والبابا تواضروس الآن.

التسامح والتعايش بين المسلمين والمسيحيين ضارب بجذوره فى عمق التاريخ، رأيت ذلك بما شاهدته فى القدس القديمة، وغمرنى الأمل عندما تذكرت أن التعايش يغرس فى بذور المستقبل أيضاً ففى ضريح الرئيس الشهيد ياسر عرفات أبو عمار برام الله، كان فتية من فرق الجوالة يهتفون على قرع الطبول فى الذكرى التاسعة لرحيله: «وحدة وطنية إسلامية مسيحية» وحدة ضد الصهيونية المغتصبة للأرض الفلسطينية.

فى القدس القديمة العرب يد واحدة لحماية المقدسات إسلامية ومسيحية من همجية الصهيونية.

على طريق النار شديد الانحدار والخطورة حيث الالتواءات الحادة والمرتفعات والمنخفضات، قضينا ساعتين مع سائق ماهر، للوصول من رام الله إلى مدينة بيت لحم، حيث كنيسة المهد شامخة، وبالقرب من الطريق تناثرت ٢٧ بؤرة استيطانية صهيونية تقسم وتحاصر إلى جانب الجدار المدينة التاريخية التى يرابط بها ١٩٥ ألف نسمة.. ساعتان للوصول عبر طرق تتجنب حواجز الاحتلال الاسرائيلى خشية توقيفنا للتحرك بدون تصاريح، بيت لحم مدينة تجسد الصمود وتعكس عبق التاريخ، الشوارع معبدة بقطع البازلت الأسمر والمائلة للاحمرار، المنازل طابقان على الأكثر، البناء على المنحدرات والمرتفعات والصخور.. نصف ساعة فقط كانت كفيلة بأن تصل بنا لهدفنا لو قطعنا الطريق الطبيعى، لكن الاحتلال يسيطر عليه لهذا سلكنا طرقًا خاصة لتجنبه، هكذا يقول السائق.
المدينة التى كانت مساحتها ٦١٦ كيلو مترًا لتصل إلى البحر الميت، تقلصت المساحة التى يقيم عليها العرب مسلمين ومسيحيين إلى ١٦ كيلو متر فقط بعد ان إلتهم الاحتلال معظم الأرض، وعلى تلك المساحة الكبيرة المنهوبة يعيش ٧٥ ألف يهودى بـ«٢٧» بؤرة استيطانية تحت حماية عشرات الآلاف من الجنود المدججين بالسلاح يعيشون على ٦٠٠ كيلو مترا، الفلسطينيون مسلمين ومسيحيين فى مواجهة السرطان الاستيطانى وجرائم الاحتلال.

«ديرو بالكم» يقول مرافقنا ونحن ندخل من باب ضيق بارتفاع متر ونصف متر، تنحنى للمرور منه إلى داخل كنيسة المهد، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى ميلاد السيد المسيح، بنيت فى القرن الرابع الميلادى ٣٢٥ ميلادية، على مغارة يعتقد أنها التى شهدت مسقط رأس السيد المسيح لحظة الميلاد، بناها الإمبراطور قسطنطين بطلب من أمه القديسة هيلانة التى جاءت لزيارة الأماكن المقدسة بفلسطين، وتولى قسطنطين بناء معظم كنائس تلك الفترة، لكن اليهود المتشددين من السامريين كعادتهم رسل تخريب ودمار أحرقوا البناء الأول وهدموا كل كنائس فلسطين، هنا تلك الأرضية الرخامية المزينة بالفسيفساء، آثار الأرضية القديمة للكنيسة المتبقية من القرن الرابع، التى تم اكتشافها مع حدوث زلزال فى القرن العشرين ١٩٢٧ وهو آخر زلزال قوى فى فلسطين فاكتشفت الأرضية الأصلية للكنيسة ١٩٣٥ خلال اعمال التنقيب والترميم.. هكذا يقول رمزى الساعدى المرشد بالكنيسة.

تنقسم الكنيسة إلى ثلاث كنائس إحداها لارثوذكس والثانية للأرمن والثالثة للرهبان الفرنسيسكان، وللجميع حقوق فى مغارة الميلاد يضيف رمزى: عبر سلم ضيق ننزل ١٠ درجات للدخول إلى مغارة الميلاد، نجمة رهبية تحيط بدائرة نصف قطرها ٢٥ سم، حولها يتدلى ١٥ قنديلاً مذهبًا يرمز لعدد الطوائف المسيحية، وستائر من الحرير المطرز بسلك مذهب، وشموع تتداخل شعاع ضوئها مع لمعان أحجار المغارة وستائرها تزيد رهبتها وجمالها، هنا ولدت السيدة مريم العذراء السيد المسيح، وهنا على هذا الحجر المنحوت كسرير طفل صغير كان مهد السيد المسيح ولذا سميت الكنيسة التى بنيت على المغارة وحولها بكنيسة المهد.

ثلاث أشجار يانعة تتدلى منها ثمار البرتقال فى ساحة الكنيسة، أوراقها كانت يوما غذاء لـ٣٠٠ مقاتل إلى جانب رعاة الكنيسة عندما حاصرت قوات الاحتلال كنيسة المهد بـ٣ آلاف جندى و٢٠٠ دبابة و٣٠ طائرة، هنا تجسد صمود المقاومة الفلسطينية الباسلة فى الانتفاضة الثانية، لم يستطع الصهاينة بعددهم وعتادهم وجبروتهم كسر الإرادة الفلسطينية، هزمهم صلابة الصمود أمام جبن المحتل، المقاوم ببندقيته الكلاشنكوف يتفوق على مئات من المحتلين مدججين بالمدافع والدبابات تحت ساتر من الطائرات.

اشتعلت الانتفاضة الثانية وبلغت الذروة، اجتاحت قوات الاحتلال مدينة بيت لحم كباقى مدن فلسطين، تصدت المقاومة وكبدتهم خسائر، كثف الاحتلال النيران، تحصن ٣٠٠ مقاتل داخل كنيسة المهد لا يمكن دخولها الا من باب ضيق جدا، حاصر الاحتلال الكنيسة ٤٠ يوما من ٢ إبريل عام ٢٠٠٢ حتى ١٠ مايو من ذات العام، منع دخول الماء والطعام، وواصل الهجمات والنيران من آن لآخر، سقط شهداء من المقاومة، وكبدت المقاومة الاحتلال خسائر، اضطر المحاصرون إلى أكل ورق الشجر بعد نفاد قوتهم، وانتهى الحصار بمفاوضات تدخل بها الاتحاد الأوروبى بين الكيان الصهيونى والسلطة الفلسطينية لتنتهى المعركة بإبعاد المقاومين من الضفة لقطاع غزة، وخلفت المعركة فى صفوف الاحتلال قتيلين و٧ مصابين، ومن المقاومة ٨ شهداء و١٤ جريحًا، لكن معارك أخرى لا تزال مستمرة والمقاومة لا تزال تنفذ عمليات نوعية بهدم أجزاء من الجدار والسلم الشائك فقط المفاوضات التى تجريها السلطة هى التى تكبلها مرحليا «نريد أن نظهر للعالم أن الاحتلال لا يريد سلامًا ولن يقدم شيئا للمفاوضات حتما ستفشل نعلم ذلك ولذلك دخلناها» هكذا يقول أحد المقاومين. غدا نواصل رصد معاناة فلسطين.