السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الرحمة القاتلة




لو كنت مكان زميلي الشاب هاشم عبدالحميد نائب رئيس قسم الترجمة، لقدمت شكوي ضد رئيس تحرير «روزاليوسف» إلي المجلس القومي لحقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، متهماً إياه بممارسة التعذيب.. ذلك أنني أرهقته بالفعل في ترجمة التحقيق الصحفي الفائز بجائزة بوليتزر الأمريكية قبل أيام.. وقد بلغ عدد كلماته 13 ألف كلمة.. فقط لا غير.

هذا العدد من الكلمات قد لا يقل عن 50 صفحة في كتاب من الحجم الكبير، ولو نشر في مجلة أسبوعية في حجم «روزاليوسف» لبلغت مساحته (بالصور والعناصر الفنية) 30 صفحة علي الأقل، أي تقريبا ملزمتين (الملزمة 16 صفحة، ومجلتنا 6 ملازم)، ولو نشر في جريدة يومية لشغل مساحة تقترب من 7 صفحات كاملة.. لكن هذا التحقيق وضع كاملا علي موقع إلكتروني رصين وعميق جداً اسمه (بروبابليكا).. محطماً النظرة الانطباعية التي تقول إن مواقع الإنترنت لا تفضل هذه المقالات المطولة.

ليست هذه المرة الأولي التي أصادف فيها مثل هذا النوع من الأعمال الصحفية.. المجلات الأسبوعية بصفة عامة في الغرب تتجه إلي هذا العمق.. في مواجهة التنافس مع الثلاثي القاهر الباطش: الصحف اليومية ـ مواقع الإنترنت ـ محطات التليفزيون.. المجلات تهجر الأخبار كلية تقريبا.. وتعمد إلي الاعتماد علي مقالات الرأي والتحقيقات المطولة.. في اتجاه استهداف قارئ من نوع خاص.. لكي تحتفظ لنفسها بمساحة تميز.. ومن ثم ليس غريباً أن يكون هذا التحقيق الفائز بجائزة بوليتزر قد نشر في المجلة التي تصدر عن جريدة نيويورك تايمز العريقة.

فريد زكريا، أشهر صحفيي العالم الآن، رئيس تحرير نيوزويك الذي يقدم برنامجا في الـ«سي.إن.إن»، كتب مقالا شهيراً في نوفمبر يناقش سيناريوهات ونتائج احتمال امتلاك إيران للقنبلة النووية في عشر صفحات تقريبا، وعندما كتب عن انتصار الإسلام المعتدل فإنه نشر ذلك في مساحة ست صفحات وفي حدود 3500 كلمة.

النيوزويك مقارنة بمجلة التايم تميل الآن إلي هذا العمق، خصوصاً بعد تطويرها الأخير قبل عام، تحقيقها عن أولاد بن لادن، بمناسبة قضية الشاب عمر الفاروق، كان من جزءين، المقال الذي يخص سيرة عمر الفاروق نفسه حوالي خمسة آلاف كلمة.. وفي عدد 16 أبريل من مجلة تايم كان الغلاف الرئيسي عن قصة قائد أمريكي في أفغانستان علي ثماني صفحات، في حدود ستة آلاف كلمة.

وفي المقابل فإن مجلة «الأيكونوميست» البريطانية الاقتصادية صاحبة التقاليد الكلاسيكية المعروفة في التحرير الصحفي، تنشر نفس العدد من الكلمات في ملفاتها الرئيسية.. غير أنها تقسم هذا علي أكثر من محور، فتجد موضوع الغلاف الرئيسي موزعاً علي عدة عناوين لكنك لا يمكن أن تلم بكل زواياه ـ إن أردت ـ إلا إذا قرأت نحو خمسة آلاف كلمة علي الأقل.. فهرس المجلة نفسه باعتباره دليل القارئ للتعامل مع المجلة يفترض فيه أن يقرأ نحو 800 كلمة.

نعود إلي التحقيق الأطول، الفائز بجائزة بوليتزر، وهي جائزة محكمة، يقررها مجلس خاص، وتحمل اسم صحفي أمريكي شهير، من أصول مجرية ألمانية، هذا التحقيق الذي نشر في 2009 .. تعلق بواقعة جرت وقت وقوع إعصار كاترينا في عام 2006 .. حين قررت طبيبة مرموقة تعمل علي إنقاذ الضحايا أن تسمح بوقف عمليات علاج ومتابعة حالات شارفت علي الموت.. فيما يعرف باسم (الرحمة القاتلة).. وهو موضوع جدلي كبير جداً في عالم الطب.

الجدل القديم يدور حول مسألة مهمة: هل من حق الطبيب أن ُيميت مريضاً يتعذب ألماً ولن يشفي ولا توجد فرصة لأن يبقي حياً؟ والجدل الجديد الذي يناقشه التحقيق هو: هل من حق القائمين علي مهام الإنقاذ في وقت الكوارث أن يسمحوا بموت من لا يمكن إنقاذهم في المستشفيات لإخلاء الأماكن لمن يمكن إنقاذهم؟

روعة الصحفية (شيري فينك)، المحققة الفائزة بالجائزة، أنها حققت المسألة من كل جوانبها، وأنها ناقشت الطبيبة المسئولة، وأنها راجعت كل القوانين والوقائع، وقامت بعمل صحفي مذهل، ولهذا فإنني عذبت زميلي.. وسوف أطلب البراءة أمام أي منظمة حقوق إنسان.. ولن أدفع له تعويضاً.. إذ سيتم توزيع التحقيق علي الزملاء في «روزاليوسف» علي سبيل التدريب بالتعرف علي خبرات أخري.. كما أن مجلس تحرير المجلة يناقش إمكانية نشره.. بعد اختصاره إلي النصف تقريبا.. سبعة آلاف كلمة فقط لاغير.


الموقع الالكتروني : www.abkamal.net

البريد الالكتروني : [email protected]