الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الأجور والقمح والربيع




كانت سعاد حسني تغني في كل الشاشات: (الدنيا ربيع والجو بديع).. بينما الأتربة تخنق الصدور.. وكنا نتعلم في كتب المدرسة توصيفًا غريبًا لطقس مصر يقول: (دافئ ممطر شتاءً.. معتدل صيفًا).. ثم تغيرت الأمور.. وأصبح شتاء مصر صقيعًا.. وصرنا نرتدي الصوف لمدة شهر ونصف الشهر تقريبًا.. ولم نكن نخلعه ستة أشهر تقريبًا.

العالم يتغير.. وكثير من الثوابت لابد أن نعيد تقييمها.. فلا نرددها كما هي.. بدون أن نخضعها لماكينة التفكير.. وبحيث لا تكون قيدًا علينا.. خصوصًا إذا كانت شعارات من النوع البراق.. المثير للخيال.

مثلاً، نحن نقول إنه لابد أن نحقق الاكتفاء الذاتي من القمح.. وهذا كلام جميل.. لكنه غير واقعي.. ولن يتحقق.. ولو تحقق لخسرنا الكثير جدًا.. والأولي هو أن نقول: إن علينا أن نقوي بحيث يمكنا أن نشتري ما نريد في أي وقت.. من السوق المحلية أو العالمية.

القمح خارج مصر رخيص، تقريبًا نصف سعر القمح المصري.. حين يصل إلي ميناء الإسكندرية.. وفي الولايات المتحدة وكندا وفرنسا واستراليا وأوكرانيا.. يزرعونه في مساحات وديان شاسعة جدًا.. تسمح باستخدام الميكنة الزراعية بدون تكاليف مرتفعة وبدون عمالة كبيرة الأعداد.. والأهم بالاعتماد علي الأمطار.. التي لا تؤثر في حصص مياه الأنهار.

حين نزرعه في مصر فإننا نقوم بذلك غالبًا في مساحات مفتتة.. قراريط وأفدنة.. وباستخدام مياه النيل.. أي ندفع تكلفته مرتين.. مرة مالاً.. ومرة ماءً.. ولذا تنتشر عمليات خلط القمح المستورد بالقمح المصري حين تستقبل مخازن الحكومة القمح المحلي.. لأن التجار يستفيدون من فروق الأسعار.. إذ تشتري الحكومة الأردب بـ280 جنيهًا.. في حين أن سعر الأردب الأجنبي أقل من هذا بما يزيد علي مائة جنيه.

ومثلاً، نحن نتلظي من تدني مستوي الأجور.. وكثير ما يقول الذين يعانون من هذا.. وهم فئات عديدة في المجتمع.. «إن أجورهم لا تصلح طبلة ولا طار».. لا تكفي بيوتهم خبزًا بدون غموس.. هذا كلام صحيح حين نقيم الأجر.. ولكن لا أحد ينظر إلي الأجر علي أنه مقابل عمل.. وليس إعانة اجتماعية.

صاحب العمل لا يدفع الأجر إلي العامل لكي يمول الدروس الخصوصية وتكاليف أكل أسرة العامل.. وهو لا يعطي هذا علاوة لأنه يعول أمه.. ولا يحجب العلاوة عن ذاك لأنه يعيش أعزب.. وإنما يدفع قيمة العمل.. وعلي أساس قانون العرض والطلب.. فإذا كان العامل له بديل سيكون سعره أقل.. وإذا كان له أكثر من بديل سيقل أكثر.. وفيما مضي كان المزارع يستأجر العامل في أرضه بسبعة جنيهات.. الآن أصبح أجره ما بين أربعين وخمسين جنيهًا.. ومن الصعب أن تبيت علي عامل زراعي وتضمن وجوده في اليوم التالي.

وبالتالي حين نتفاوض مع الحكومة لا ينبغي أن يكون ذلك علي الأجور.. وإنما علي التحكم في الغلاء.. وعلي توفير فرص العمل.. وعلي أن تتيح للعمالة القدرة علي أن تبيع العمل.. لأننا لا نتسول منها إعانات لفتح البيوت.. ولا يجب عليها كذلك أن تعاملنا باعتبارها تقدم لنا حسنة.. هي مدينة لنا بمناخ اقتصادي متزن.

ومثلاً، نحن نقول إن علي الحكومة أن تدفع وأن تمول.. وأن تدعم.. كما لو أنها تدفع من جيبها.. ومن خزائن شخصية للوزراء.. أي مليم يصرف.. سواء كان دعمًا أو إنفاقًا علي إنشاءات.. هو يأتي من جيوبنا جميعًا.. فقط يعود إلينا بطريقة مختلفة.. هذا هو محصلة الدخل القومي.. وهذا الدخل جاء من محصل قيمة العمل الذي قام به كل منا.. أنا وأنت.. الحكومة دورها أن تحول هذه الأموال إلي أرقام في ميزانية متوازنة ودورها أن تخلق الفرص لكي تزيد الأعمال ويزيد النمو فتزيد الأموال.. وتنفق منها علي ما يحتاجه البلد.. ليس لأنها تكرمنا ولكن لأننا قد عملنا.

إذا دفعت الحكومة مالاً أكبر من قيمة العمل.. فإن هذا يعني أنها تدبر مالاً من مصادر قد لا تكون طيبة.. مثلاً: تطبع «فلوس».. وهذا في حد ذاته كارثة.. كل جنيه لابد أن يكون ناتجًا عن عمل يساويه.. أو أن تكون تمول الاحتياجات بالعجز.. أي تستدين.. وواقعيًا حين تستدين الحكومة فإن هذا الدين لا يكون علي حسابها.. وإنما علي حسابي وحسابك.. لأننا لم نقم بالعمل الكافي لمنع العجز.. أو لم توفر هي الفرص الكافية لكي نعمل أكثر.
 
الموقع الالكتروني :   www.abkamal.net
البريد الالكتروني   :   [email protected]