الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

«نيس» - المحطة!




من نيس - جنوب فرنسا:
نصحني صديق من محترفي الأسفار، بأن أهجر مدينة نيس الفرنسية فور أن أصلها، وقال لي: «لو كنت مضطرا: اقض وقت النوم فيها فقط.. لكن لو أتيحت لك ساعتان من وقت الفراغ بعد العمل.. فلتذهب إلي موناكو أو مدينة «كان» الشهيرة.. أو مونت كارلو.. وأردف: «نيس هذه ليست سوي بلد فيه مطار يصل بك إلي المدن الفرنسية الأخري في الريفيرا».. وأكمل وصفه: «أنها كئيبة جداً.. ولن تضيف لك جديداً».

واقعياً أنا أثق في شهادات صديقي هذا.. بل إنني ذات مرة أسبغت عليه صفة: مستشاري الخاص لشئون الحياة.. فهو من النوع الذي «أكل السمكة وذيلها».. ولفظ عظمها.. ولكن بعد أن عرف مكوناته وعبر عليه بأنيابه.. ومن ثم فإنني تجهزت نفسياً إلي التعامل مع «نيس» باعتبارها «المحطة».. بلد المطار الذي يأتيه الناس عبورا.. ليذهبوا بالسيارات إلي المدن الرائعة الأخري.. وهكذا تساءلت: «لماذا لا تبني الحكومة الفرنسية مطارا في أي من «كان» أو «مونت كارلو».. وتدمر «نيس» وتنهي أحد أسباب البؤس في العالم»؟

عملياً، كنت قد زرت «نيس» من قبل.. في القمة الأفريقية - الفرنسية قبل السابقة.. وكنا نغطي مشاركة السيد الرئيس فيها.. لكن لحسن الحظ فقد كانت زيارة خاطفة.. إذ بمجرد أن هبطت الطائرة أقلتنا السيارات إلي مقر إقامة المؤتمر وقتها في «كان».. حيث أضيف إلي رصيد اندهاشنا الريفي بمعالم حضارة العالم المرفه الكثير من النقاط.. والذكريات.

في هذه المرة: نمت في السيارة التي أقلتنا من المطار إلي الفندق.. نحو نصف الساعة.. كنت متعباً.. وكنت راغباً في ألا أصدم نفسي بواقع البلد الذي سوف نقضي فيه بضعة أيام.. المسافة طويلة.. لابد أننا في الطريق إلي «نيس - البلد».. الفندق بعيد إلي حد ما عن مركز المدينة.. حسنا.. فصديقي هذا قال لي الكثير عن المقارنة بين كآبة نيس - المركز ونيس - البلد.. فالبلد يحاول أن يقلد جيرانه الرائعين في موناكو ومونت كارلو وكان.

من حين لآخر كنت أقطع نومي المفتعل بأن أرفع نصف جفن إلي أعلي.. لكي أطالع وجه المأساة التي تنتظرني: شوارع نظيفة.. شيء سخيف جد.. والأدهي أنها منظمة.. ما هذه الكآبة.. وبشر هادئون، محبون للحياة غير فضوليين لا يتدخلون في شئون من حولهم.. طبعا مع صديقي حق.. هذا شيء مقرف جدا.. أن أياما صعبة في انتظاري.. ألم يكن علي الفرنسيين أن يختاروا مدينة أخري لإقامة المؤتمر؟

أغمضت عيني تماما.. وقررت أن أؤجل الصدمة.. ولكنني لم أتمكن من أن أسد مسامعي.. إذ لم يكن معي أي قطن.. وبالتالي لاحقني هدوء غريب.. رغم أنني لمحت حين كنت أفتح عيني تلصصا أن الطرق فيها قدر لا بأس به من السيارات.. شيء مزعج جدا.. أين التلوث الصوتي المعروف والذي لا نحيا بدونه.

ولم أتمكن من أن أسد أنفي.. بقاؤه مفتوحاً من ضرورات الاستمرار علي قيد الحياة.. ومن ثم استقبلت هواء نقيا.. أسفت وقلت: أتنقص الأمور ما يسوؤها؟.. وقاومت هذا النقاء.. بأن أغلقت شباك السيارة وطلبت من السائق إعمال التكييف. إذ لا أريد أن يعتاد صدري علي معدل أقل من التلوث العظيم الذي تربيت عليه.. هذا الهواء الغريب يسبب لي السعال.. وقلت لنفسي: معهم حق قادة أفريقيا وفرنسا إذ سوف يناقشون تأثيرات تغير المناخ علي الأحوال الأفريقية.. وعلي الرغم من كونها قضية جدلية غير متفق عليها.. إلا أن عليهم أن يجدوا حلاً.. بدءا من هذه الظاهرة المزعجة التي هجمت علي صدري في نيس - المحطة.. ثم في نيس - البلد.

ما أن وصلت الفندق الكئيب، والذي من المؤسف أنه يقع فوق تلة غير مرتفعة، يحتضنها خليج متوسطي سخيف، بحيث تعانق عيناك زرقة المياه مع خلفية مقرفة جدا للجبل الموازي للشاطئ، وبينهما «مارينا» مؤذية تعتمر بعشرات من اليخوت والقوارب الحقيرة.. ما أن وصلت.. وفتحت النوافذ واكتشفت أن شرفتي تطل علي كل هذا.. حتي اتصلت بصاحبي فوراً.. وقلت له: يا أخي.. أرجوك الحقني.. أنا في مأزق.. ما هذا البلد الذي نزوره.. كم هو سخيف؟.. فواساني علي وضعي.. ولكنه لم يملك لي حلاً.. ففكرت جديا أن أقطع طريق العودة من ساحل فرنسا الجنوبي إلي ساحل مصر الشمالي.. سباحة.. غير أن الله ستر.. لأنني لا أجيد العوم.. ونكمل غداً
 
الموقع الالكتروني :  www.abkamal.net
البريد الالكتروني   :  [email protected]