كفر موناكو
عبد الله كمال
والكفر هنا ليس تعبيرا ساخرا بقدر ما هو تعبير مساحي حقيقي.. إذ قد لا تكون مساحة موناكو أكبر من مساحة أي «كفر مصري» متوسط.. علي اعتبار أنها لا تزيد علي كيلو متر بكثير.. ولكن «العلم في الراس وليس في الكراس».. والعدد في الليمون.. والعلم لا يكيل بالطن.. والمساحات لا تقاس بالكيلو متر ولكن بما يتم استثماره منها وتحقيقه للفوائد.
ويطيب للمصريين أن يتندروا في حالات القياس المقارن بما لديهم من احجام.. فيقولون لك مثلا إن الدولة الفلانية تعدادها أقل من شبرا.. ويقولون لك أن سكان باب الشعرية يمكن أن يغطوا مساحة اماراتين.. لكن موناكو امارة لها وضع قانوني خاص.. تعبرها السيارة في ثلاث دقائق.. وإن كانت تجتذب مليارات العالم.. ويفد إليها السائحون بالملايين سنويا.. ولا داعي لذكر الأرقام فقد تكون الحقائق مخجلة.
والأدهي أن موناكو، تضم نجع مونت كارلو.. ولو شئت مزيدا من التسخيف وحرق الدم.. سوف أقول لك إن كل ما في هذا النجع ليس أكثر من ميدان منمق.. يحتوي علي أكثر من كازينو قمار.. ومحلات لبيع التذكارات.. بازارات يعني.. لكن الناس الذين يفدون بالملايين من مختلف أنحاء العالم إلي هذه البقعة المحدودة جدًا.. يجدون متعة هائلة في أن يقضوا بضع ساعات في المكان.. يلتقطوا الصور.. ويتناولوا الآيس كريم أو ساندويتش في مقهي معروف.. ويمروا علي موائد القمار إن كانت عقيدتهم تسمح بذلك.. وينتهي الأمر.
الكفر، وفي داخله النجع، لديه ميزة خاصة جداً، هي في أنه خلق حالة ذهنية مذهلة حول اسمه في مختلف عقول البشر، فأصبح استهدافه بالزيارة في حد ذاته مقصداً ممتعاً.. حتي وإن لم يكن لدي الكفر وفي داخله النجع ثلث آثار العالم كما نقول مثلا عن الأقصر.
وقد يقول لك البعض أن لدي موناكو اعفاءات ضريبية، ومميزات مالية، وساحلاً لطيفاً، كل هذا مفهوم.. ولكن أساس الجاذبية في أن المكان حظي بالدعاية بحيث أصبح «براند».. ليس أكثر.. كما لو أنه «كارتييه» أو «شانيل» أو «دولشي آند جابانا» أو «لوي فيتون».. يستثير في النفس مشاعر بعينها.. لا علاقة لها بالمكونات.. ولكن بالاسم الموضوع عليها.. ومن ثم يسعد هؤلاء البشر لأنهم اشتروا من بازار في موناكو «تي شيرت» مكتوب عليه «أنا أحب موناكو».. أو رباط شعر عليه كلمة «كازينو».
في الطريق إلي الكفر تجد الطبيعة خلابة، ولكنك تجد أيضا أدلة كثيفة علي الطرق المتنوعة التي قهر بها الإنسان قسوة الطبيعة، حفر الأنفاق في قلب الجبال، وعبر بالطرقات فوق الصخور، لم يتحجج بأنها تعرقله، وأعمل عقله، وأنفق ماله، وأشغل تكنولوجيته، وبالتالي فإن السائح في الطريق إلي الكفر إنما يزور أيضا التقدم والازدهار.. ويعانق الحضارة التي تمكنت من أن تشيد ذاتها فوق تضاريس صعبة.
وتدهش جدا وأنت تقطع الطريق من «نيس - البلد» إلي كفر موناكو، إن منحنياته صعبة جدا.. لكنك لا تري أثرا لاحتكاك أي سيارة بالطريق.. علي عكس السائقين الذين احترفوا القفز فوق أرصفة نفق الأزهر.. وتذهل لأن المرور منساب بسلاسة.. رغم أن هذا الطريق أضيق جدا إذا ما قورن بطريق الزعفرانة.. غير أنك تشعر علي طريق كفر موناكو بالأمان في حين أن مشاعرك في طريق الزعفرانة لن تغادر خانة الرعب والالتياع.
إنه الإنسان قبل أي شيء آخر.. انضباط السائق الذي لا يضطر أبدا إلي اطلاق نفير سيارته عند أي منحني، ولا يزيد سرعته كيلو متراً واحداً فوق السرعة المقررة، وهو نفسه الإنسان الذي يجعل الطبيعة لها رونق رائع.. رغم أنها لا تقارن بما لدي الآخرين.. مثلا: شواطئ الريفيرا الفرنسية كلها حصي وصخور.. وشواطئ الساحل الشمالي في مصر عامرة بالرمال الناعمة الممتدة.. ولكن الفرنسي يستطيع أن يبهرك بما لديه والمصري لا يمكنه أن يفعل رغم أن لديه أكثر وأسهل وأفضل.
إنهم يفعلون ذلك بكل بساطة.. وبدون أي جهد كبير.. والسبب هو بمنتهي الاختصار من بندين: الأول: الإيمان بالعلم.. والثاني القيام بالعمل حين كان وقت العمل واجبا.. وليس بعد أن يدق الجرس.. وترفع أوراق الإجابات في لجان امتحان الحضارة.
الموقع الالكتروني : www.abkamal.net
البريد الالكتروني : [email protected]