الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

يا شيخة.. «خوشِّى»!




بغض النظر عن عمليات التشويش التي تصر علي أن تقطع تواصلنا مع مباريات بعينها في بطولة كأس العالم.. وبغض النظر عن أن درجة السخونة لم تصل إلي المستوي الأحمر بعد.. إذ بالكاد بدأت الجولة الثانية من تصفيات دور الـ32 .

(32 فريقًا في الدور الأول).. كما لو أننا في مسابقة (كرة شراب) في إحدي ساحات الشرابية.. حتي ينبسط الفيفا ويجمع أكبر قدرٍ من المال.. ويمارس ديكتاتوريته بكل أريحية.. مؤكدًا أنه يحكم الكرة الأرضية طيلة هذا الشهر.

بغض النظر عن كل هذا فإن الاستمتاع الحقيقي بفنون كرة القدم قد بدأ.. والسعادة التي تسببها الساحرة المستديرة المستطيرة هلت لياليها.

ولابد أن تواجه من اللحظة الأولي في بطولات كأس العالم معاني عظيمة قد لا تكون لها علاقة مباشرة بفنون كرة القدم.. إذ تكشف عن معادن الأمم.. ونبوغ المواهب.. وإصرار البلدان علي أن تحطم موازين النظام الدولي من الناحية السياسية في ساحات الرياضة.. وأنا شخصيًا أعتقد أنه لولا وجود مثل تلك المباريات التي تجد فيها مشاعر الغضب متنفسًا لها بأشكال مختلفة.. لكانت الشعوب قد انفجرت وأكلت بعضها ونفسها.. إن كرة القدم كما قد تفجر حربًا.. إلا أنها بديل حقيقي وعظيم للصراع.

الملاحظة الأولي حتي الآن هي أن الإرادات تصنع المعجزات.. سواء كان صاحب الإرادة ضعيفًا أو قويًا..المهم أن تكون راغباً في فعل شيء ما.. بعد ذلك ابن قوتك.. واصنع مجدك .. وقد تفشل وقد تنجح .. ليس مهما .. المهم أن تشعر بالرضا لأنك حاولت وأصررت علي ذلك.

ألمانيا بمقاييس كرة القدم تعتبر (سوبر باور).. لكنها في هذه المرة تواجه التحدي بفريق صغير السن.. يخوض المنافسات بسلاح الإرادة.. وقد تعامل مع مباراة أستراليا باعتبارها تدريبًا علي تنفيذ القرار المتخذ مسبقا بالفوز.. يصدر اللاعبون للكرة الأمر بأن تدخل الشبكة.. فتطيع وتنفذ.. وتدخل.. حتي إن عصت مرة أو مرتين فإنها تستجيب مع تكرار الإصرار.. وكان معلقنا الشهير محمد لطيف رحمه الله يتودد إلي الكرة ويتوسل ويناجيها ويلاطفها.. ويقول لها من كرسي المعلق أمام الجميع: يا شيخة خوشي.. ولا تدخل.. فهي من النوع الذي لا يطيع إلا من يلكمها.. وليس من يبوس جلدها! حتي كرة القدم لا تنصاع إلا للأقوياء.. والذين يملكون إرادة النصر.

الأمريكيون، بمقاييس القوي العظمي في النظام الدولي، لا مثيل لهم ليس فقط الآن.. وإنما في كل التاريخ.. امبراطورية بلا نظير.. لكنهم في كرة القدم مجرد مجتهدين.. يحاولون أن يحتجزوا مكانًا تحت الشمس.. وقد كانت أهم محاولة لهم حين أقيمت كأس العالم في 1994 علي أرضهم.. قدموا فريقًا فتيا لم يلبث أن ذبل حماسه وسقطت رغبته أمام القوي التقليدية.. غير أنهم مازالوا يحاولون.. حتي لو كانت ليست لديهم مواهب عظيمة.. وحتي لو كان مستواهم الفني غير لافت.. إلا أنهم من هذه الفئة من الناس التي لا تريد الاستسلام لما يعتقد الآخرون إنه قدر.. فالمستوي الفني تعوضه اللياقة.. والمواهب القاصرة تعوضها أيضا الإرادة.. وليس (توسل خوشي).

وفي المقابل، وعلي النقيض.. فإن فريق كوريا الشمالية، هو تجسيد حقيقي لقيمة الإصرار.. بخلاف أنه أعطي صورة براقة عن بلد تسوق الانطباعات عن غياهبه في جميع أرجاء الأرض.. في ضوء عزلته وطبيعة نظام حكمه.. فريق يافع استطاع أن يصمد أمام البرازيل ما لا يقل عن 60 دقيقة.. وكان أكثر من ند.. وحين تضاعف الهدف هدفين في مرماه.. لم يبتئس.. ولم يكتئب.. ولم ينتظر الثالث.. بل ذهب إلي الجانب المعاكس وسجل هدفًا تاريخيًا.. وكاد يفعلها.. وحمد البرازيليون الله لأنهم عبروا الموقعة بأقل الخسائر.. نعم هذه خسارة رغم الفوز.

بنظرة عامة، لابد أن ننتبه إلي طبيعة التطور الذي يطرأ علي الكرة الآسيوية، هناك رابط ما بين نظام الحياة.. القائم علي الجماعية.. والنظام الصارم.. وبين الكرة التي يلعبونها.. وتلك جوامع مشتركة بين الدول الاشتراكية مثل الصين وكوريا الشمالية.. وبين الدول الرأسمالية مثل اليابان وكوريا الجنوبية.. الصفوف تتحرك كتلاً متراصة.. اللاعبون كما لو أنهم آليون يتلقون التعليمات وينفذونها حرفيًا.. الجهد يبذل بطريقة رهبان بوذا أو مصارعي الكونغ فو.. تركيز يقارب ما يتحصله المتأملون في حدائق زن.. وقد تابعت مباراة ودية بين فرنسا والصين قبل البطولة فازت بها الصين.. وشقت فيها أنفاس الفرنسيين أربعة أرباع حتي اللحظة الأخيرة.

وقد تسألني ما هي حدائق زن التي ألقيت بها في نهاية الفقرة السابقة، فأقول لك إنها حدائق من الحصي والأحجار المنسقة وفيها قليل جدًا من الأعشاب يستخدمها رهبان معينون في اليابان علي سبيل التركيز والتأمل.. يجلسون أمامها.. ويسرحون .. وقد جلست أمام إحداها في طوكيو منذ 15 سنة ولم أكن راهباً.. لكنها تعطيك فرصة للتدريب علي التركيز.

غابات أفريقيا تخالف في بعثرتها وفطريتها بالطبع التنسيق المذهل والدقيق لحدائق زن.. وعلي الرغم من فقر الحدائق الآسيوية وعمران الغابات الأفريقية إلا أن الأفارقة لم يروضوا بعد حدائقهم.. فيها كنوز منظورة وغير مستغلة.. الفرق الكروية الأفريقية مليئة بالمواهب.. ولكن فيها غرور.. فيها ثراء من الإمكانيات ولكنها غير منظمة.. مليئة بالقدرات.. ولكنها ترتضي أن نلعب لصالح أندية المحتل قبل أن تقدم خيرها لمواطنيها.. ولذا فإن تاريخ الفرق الأفريقية في كأس العالم يتراجع بطولة تلو أخري.

كان هذا حديثًا في كرة القدم.

الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net
البريـد الإليكترونى: [email protected]