السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المنتحرون




لاحظت أن الشرطة قد وضعت دورية ثابتة علي كوبري قصر النيل.. فيما مضي، وأظن حتي الآن، كانت تتناثر عناصر التأمين علي الكباري والأنفاق خشية الإرهاب.. خصوصًا بعد عملية إلقاء عبوة في التسعينيات علي نفق الهرم في الجيزة.. الدورية الثابتة الآن علي كوبري العشاق ـ كما يسمون كوبري قصر النيل ـ ربما تكون لمراقبة من قد يحاول الانتحار.

وقد تكررت في الفترة الأخيرة حالات الانتحار.. ووجدتها صحف وبرامج فرصة لكي يتناولوا مثل تلك الأمور علي أنها دلالة تفسخ اجتماعي ومشكلات معقدة في البلد.. وإسهام جديد في حالة الاكتئاب التي تسوق علي نطاق واسع.. علي الرغم من أن حالة الانتحار الأشهر الأخيرة كانت تتعلق بأزمة عاطفية تعرض لها المنتحر وفق ما كتب في ورقة بجيبه.. رحمه الله.

وبالصدفة قرأت في جريدة (الجابان تايمز) قبل أيام افتتاحية تتعلق بهذا الأمر.. في اليابان طبعًا.. بعد أن أعلنت وكالة الشرطة الوطنية أن عدد المنتحرين في اليابان بلغ في عام 2009: 32.854 بزيادة قدرها 568 منتحرًا عما كانت عليه الحال في عام 2008 . وقد تناولت الجريدة الأمر في إطار احصاءات علمية مدققة.. وتبين أن السبب الأساسي للانتحارات هو الاكتئاب.. إذ انتحر لهذا المبرر ما يزيد علي 6 آلاف ياباني.. وانتحر ما يزيد علي ألف شخص بسبب البطالة.. وارتفعت المعدلات منذ هجمت الأزمة المالية وبدءًا من أكتوبر 2008 .

اقتصاد اليابان يعادل أضعاف أضعاف اقتصاد مصر.. ولا وجه للمقارنة علي الإطلاق.. من مختلف النواحي.. وبما في ذلك سياسيًا واجتماعيًا.. ولكن هذه الأرقام التي تمثل معدلات خطورة اجتماعية تخضع للدراسات ولا يتم التعامل معها علي أنها دليل قرب انهيار الدولة.. بل إن الأرقام تزيد عامًا تلو آخر.. ويمكن أن نجد حالات مماثلة في كل من السويد والنرويج والولايات المتحدة وغيرها.. حيث تتنوع الأسباب رغم رفاهية المجتمعات بإجمالي مؤشراتها.. معدلات دخلها القومي أكبر بكثير.. ومستوي دول أفرادها أبعد منا بمسافات.

لكن الانتحار لم يدرج بعد في مختلف الدول باعتباره أزمة سياسية.. كما أنه لم يدخل بعد ميادين التوظيف السياسي من قبل المتنافسين السياسيين.. هذا يجد فيه دليلاً علي فشل ذاك.. وذاك يري فيه وسيلة لإقناع الناخبين بأن نهاية غريمه قد اقتربت.. ومن ثم فإن التعامل مع حالات الانتحار التي لم تبلغ هذه الأعداد في مصر علي أنها مؤشر علي قرب القيامة السياسية هو أمر من قبيل العبث والتضليل.

بلد فيه 80 مليون مواطن لابد أن فيه عشرة أو حتي مائة سوف يقررون أن يغادروا الحياة طواعية.. مع العلم بأن الدوافع الدينية تقلل كثيرًا من مثل تلك الظواهر.. والتركيز علي ظواهر ليس لها حجم كبير هو إهدار للجهد.. وتحويل لأنظار الناس عما ينبغي أن نوجههم إليه.. خصوصًا لو كانت هناك مشكلات اجتماعية حقيقية تحتاج اهتمامًا أصيلاً ومنظمًا وليس (ثورجيا) و(تحريضيا).

مثلاً أنا أري أن هناك ارتفاعًا في معدلات الدعارة غير المنظمة، وربما أكون علي خطأ، وتلك مسألة تبحثها مجلة «روزاليوسف»، وهناك بالتأكيد نوعيات من العلاقات الاجتماعية التي تفرزها مشكلات عديدة لم تكن معروفة في البلد ونتجت عن تأخر سن الزواج.

أقول هذا مختلفا مع بعض ما ورد علي لسان الوزيرة مشيرة خطاب في تلك الصفحة.

ومن ذلك ما يمكن أن نسميه (عنوسة الرجال)، بخلاف طبعًا (عنوسة النساء)، وهناك ارتفاع معدلات الراغبين في التبرع (الاسمي) بأعضائهم الجسدية.. هو واقعيًا بيع وليس تبرعًا.. أي ببساطة ما يمكن أن نصفه بأنه طريقة مختلفة للتعامل مع الجسد باعتباره أصلاً رأسماليا.. سواء أخلاقيًا أو طبيًا. ولا ننسي أن الانتحار هو تخلص كامل من هذا الجسد. وإهدار كامل لهذا الأصل.

أي بمعني آخر أن هناك من ضغطت عليه احتياجات جسده.. ففرط في جسده.. وحالات نادرة هي التي تفرط في جسدها وروحها.. وتقرر مغادرة الحياة.. هاربة من كل شيء.

هذه مسائل أخطر، وحتي لو كانت موجودة وناتجة عن التبعات المتنوعة للتحولات الاقتصادية.. والأزمات التي لم تسلم منها دولة في العالم.. فإنها ليست دليلا علي قرب نهاية المجتمعات وانفراط عقدها.. وبدلاً من أن تضطرنا إلي الولولة فإنها لابد أن تدفعنا إلي الدراسة وتوفير الحلول.. ومناقشة المسائل بطريقة عاقلة وبنائية.. بحثًا عن حلول وليس للدعوة إلي مزيد من الاكتئاب الذي يفضي إلي الانتحار أحيانًا.. كما لو أن وسائل إعلام تزيد معدل اكتئاب الناس لكي ينتحر بعضهم. فتعود نفس الوسائل لكي تناقش أسباب حالات الانتحار التي انتحرت بسببها!
الموقع الالكتروني :  www.abkamal.net
البريد الالكتروني   : [email protected]