الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

التحليل النفسى لقيادات جماعة الإخوان المسلمين عصام العريان (الحلقة 18)




المتسامى

يقول الكاتب والفيلسوف اليونانى نيكوس كازانتاكيس: «ما أن نولد حتى تبدأ محاولاتنا فى أن نخلق ونبتكر أى أن نجعل للمادة حياة»، أى نولد فى كل لحظة، لذا جاهر البعض ولا أبالغ إن قلت إن هدف الكثيرين فى هذه الحياة هو الخلود، فى الأجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران، الصاعد نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود، الهابط نحو التحلل، نحو المادة، ويقول «نيكوس» أيضا فى وصف هذين التيارين: «هذان التياران كلاهما مقدس»، إلى هنا انتهى كلام كازانتاكيس، ويقول الطبيب النفسى والمفكر النمساوى الشهير سيجموند فرويد: «إن الإنسان يحمل داخله – أى فى النفس اللاواعية – رغبتين إحداهما هى رغبة البناء، ودعاها «الإيروس»، والأخرى رغبة الهدم وسماها «الثانتوس»، وفى بدء مشروعه العلمى أكد سيجموند فرويد على أن الإنسان تحركه الدوافع طبقا لغرائزه الجنسية فقط، تعرض بعدها لانتقادات شديدة ورفض أشد فى الأوساط العلمية والطبية أجبرته على تعديل آرائه فى نهاية حياته إلى مفهوم أقل حدة، وهو أن الجنس هنا المقصود به كل صور البناء والحياة، وأن العدوان والتدمير المقصود به كل الصور السلبية والهدم والرذائل حتى المعنوية منها، بل وخصوصا المعنوية منها والتى يمكن أن تندرج تحت هذا اللواء.
وفى الفترة الأخيرة ابتليت بلادنا ليس فقط بطوفان من النوع الثانى الهدمى والتدميرى، بل وبتمكن هذا الطوفان لفترة من مقدرات البلاد ومفاصلها، هذا الطوفان هو جماعة الإخوان الإرهابية، أما الابتلاء فهو مشروعها المقصود به التمكين لها فى جميع أرجاء الدولة المصرية، فيما عرف إعلاميا بمشروع «الأخونة»، وقام على هذا المشروع الخطير الغريب عن مصر مجموعة من الشخصيات أغرقت البلاد فى فوضى لا مثيل لها، حتى لفظت مصر شعبيا هذا الكيان الإرهابى غريب النبت، ونحن نهدف هنا بالأساس لمحاولة فهم ما يدور فى نفوسهم، وبعض الديناميكيات لهذه الشخصيات التى تقود الجماعة الإرهابية، نتساءل: ما هو التكوين النفسى لهذه الشخصيات؟ هل هى شخصيات سوية أم بها خلل ما؟ سنحاول جاهدين بلا إفراط ولا تفريط أن نوغل برفق فى تحليل نفسى بسيط لهذه الشخصيات، والتى ظلت طوال عام كامل من حكم الإخوان تطل على الساحة تحت الأضواء حتى أفول نجم الجماعة، فضلا عن سيطرتها على مقاليد الأمور بالدولة بعد ثورة 30 يونيو. الحديث عن عصام العريان شخصية هذه الحلقة مميز جدا ويحمل الكثير من الصفات التى يتسم بها العريان بشكل خاص ومتفرد عن باقى أعضاء جماعته فملامحه العامة المشتركة مع عموم أفراد الجماعة تتميز بلون خاص فضلا عن ملامحه الخاصة.

 فى حديث لأحد الوجوه السياسية على احدى القنوات الفضائية كان الرجل يتحدث بشكل درامى حزين جدا عن عصام العريان الطيب الودود السمح الذى انقلبت حاله إلى شخص يهدد ويرغى ويزبد على منصة فى رابعة العدوية ليتهم لاحقا بالتحريض على أعمال شغب وعنف وخلافه مما نسبته النيابة إليه بعد القبض عليه إثر فترة هروب طويلة حتى العثور عليه بإحدى المناطق الريفية المجاورة للهرم بمحافظة الجيزة.

 التساؤل الهام هنا.. أيهم يمثل عصام العريان الحقيقي.. الرجل الودود الذى تحدث عنه الضيف الفضائى  كان يحاضر فى أفراد جماعته ويتعمد أن يختار موضوعا غاية فى الرقة وهو الصوفية ورجلا من أعذب أقطاب الصوفيين وهو ابن عطاء الله السكندرى وكان يحفظ جميع حكمه! أم هذا الرجل الذى يرتجف من كم الغل والحقد بداخله ويتوعد ويهدد بكل أشكال العنف وويلاته؟!

 ببساطة كلا الرجلين واحد لكن الأخير هو الحقيقى والأول قناع يرتديه الوجه البشع ليدارى تلك البشاعة تحت وجه الحمل الوديع.. هل تذكرون حديثنا السابق عن الشخصية الإخوانية السيكوباتية وميلها إلى العنف والتدمير بشكل عام وخصوصا تجاه من يخالفها أو تجاه مجتمعها الأكبر والذى لا تعترف به من الأصل، هنا لابد من ذكر أن العنف نوعان، عنف ايجابى بمعنى التدمير المباشر أو الايذاء البدنى أو الإيذاء اللفظى وعنف سلبى بمعنى الامتناع عن الأداء الايجابى كأن يمتنع موظف عام عن أداء واجبه أو «يزوغ» من عمله مبررا ذلك قائلا: «على قد فلوسهم» أو ينشغل بالصلاة طوال فترة العمل الرسمى وربما لا يصلى بعد العودة من العمل إلى منزله، النوع الثانى من العنف هو عنف يمارسه المقهورون لأنهم لايستطيعون ممارسة العنف الأول وهم فى احتياج لممارسة العنف بأى طريقة للتعويض عن الكبت، النوع الأول كان يمارسه النظام المباركى قبل سقوطه تجاه الجماعات المتطرفة لأسباب لا تخفى على أحد ولن نخوض فيها الآن، بعد أحداث 25 يناير انقلبت الأمور وأصبح الأمر مختلفا العنف الإيجابى مباح فلماذا اللجوء إلى السلبى والسلطة أصبحت فى يد الإخوان فلماذا لا نمارس العنف الإيجابى فى إطار نفسى تعويضى عن الماضى المكروه، ماضى الإكراه النفسى على الأقل.

 تكلمنا أيضا فى شكل الصراع بين القيم العليا أو السلطة الأبوية المعروفة باسم «الأنا» العليا وبين مجموعة الغرائز البدائية المعروفة باسم «الهو»، وبين هذا وذاك تجد الذات أو النفس الواعية أو الأنا التى تخشى الانسحاق أثناء الصراع فتعمل على ابتكار حيل دفاعية تدافع بها عن وجودها واستمرارها فى الحياة، وذلك لتقليل القلق العصبى الناتج عن حالة الصراع سابقة الذكر، من أهم الحيل التى مارسها العريان بشكل غير واع هى حيلة التسامى بمعنى أن تتسامى على حالة الصراع وتبدو مثاليا جدا فتتحدث عن الروحانيات والقيم والصوفية رغم أنه فى أى لحظة كان مهددا من قبل نظام مبارك – بغض النظر عن صفقات شهر العسل بين الإخوان وأمن الدولة – وهذا التهديد يجعل هناك رغبة فى الانتقام من النظام الأبوى – مبارك - إلا أنه كحيلة دفاعية يتسامى متحولا إلى الكائن الرقيق هذا الذى يتباكى عليه رفاقه القدامى ثم زالت الأسباب فلم تعد هناك ضرورة لحيل فظهر الوجه الحقيقى ببساطة، وهنا اندمج العنف الايجابى الذى شاهدناه فى تصريحات العريان مع حالة الانتقام التى يتمناها من نظام مبارك أو أى ممثل له أو أى طرف تربطه علاقة ولو عابرة بذلك النظام.

 حيلة أخرى مارسها العريان بشكل غير واع وإن كانت إلى حد كبير مندمجة مع سابقتها، فالعريان حصل على أكثر من شهادة جامعية أولها الطب وحصل بصعوبة نتيجة الملاحقة الأمنية على الماجستير ثم قام بالتسجيل لدرجة الدكتوراة والتى لم يستطع الحصول عليها نتيجة موجة الاعتقالات المتكررة وآخرها التى يجرى التحقيق معه على اثرها فى النيابة، حالة الوسوسة للحصول على أكبر كم معرفى هنا مرتبطة بالتسامى إلى حد كبير، فلو سألت أحدهم وقلت ما فائدة أن تحصل على شهادات فى أكثر من مجال فلتقرأ فى المجال الذى تريد إذا كان الهم هو المعرفة وأيضا ما وجه الاصرار فى الحصول على درجات أعلى لن تفيده أكاديميا ولا اجتماعيا فالجماعة لا تعترف بالأكثر تفوقا علميا وإنما بالأكثر اخلاصا ووفاء، فقط تندمج الحيلتان بشكل يصعب التفريق بينهما تقريبا وذلك للارتباط الشديد بين كلا الحيلتين الدفاعيتين.

 الأمر الملفت هنا أن الرجل الذى تسامى قدر الامكان –بشكل دفاعى غير واع – اسقط كل هذا الكم من الدفاعات وصار يتعامل بشكل ذهنى مطلق تحركه الرغبة الجامحة فى الانتقام والتدمير يتعامل بالشكل البدائى الأول للعنف أى ممارسة العنف الايجابى فى كل صوره وصولا حتى للإرهاب نفسه.

 ملمح آخر وأخير يبدو لطيفا وساخرا إلى حد كبير وهو التصريح الذى أدلى به عصام العريان بخصوص عودة اليهود المصريين من إسرائيل إلى مصر، هذا التصريح كان مثيرا للسخرية ليس فقط من المصريين أصحاب النكات اللاذعة ولكن من اليهود أنفسهم سأتحدث عنه هنا بالتماهى مع خطاب مرسى الشهير لشيمون بيريز الذى دعاه فيه بالصديق الوفى، النقطتان هنا متكاملتان الأولى الخطاب - تصور مرسى أنه سرى - والثانية التعليق المتلفز - كان العريان متأكدا من انتشاره أو لنقل كان يريد هذا الانتشار، المشترك الأعظم بين الأمرين هو بدائية التناول وسذاجته وهو أمر لا يدعو للعجب فى الجماعات الأولية التى لا تعترف إلا بلونين الأبيض والأسود، تخيل أنك أمام مشهد سينمائي، شخص ما خائن لوطنه ويمارس فعل الخيانة ويذهب بعدها للعدو يستعطفه قائلا هل أنت راض عنى الآن، للأسف نحن هنا تقريبا أمام نفس المشهد لا يوجد خيال حتى فى الخيانة أو الابتكار مما عرضهم للسقوط السريع فالجماعة تمارس البدائية بطريقة فجة وهى عمياء عن أى شيء آخر يبقى أن نقول إنه إذا كانت الجماعة والنظام المباركى متشابهان فى الفساد إلا إنه ويجب أن نعترف بذلك أن فساد عصر مبارك كان أكثر حرفية وأكثر اقناعا من الإخوان البدائيين عديمى الخيال، وهو بالطبع ليس ميزة لأحد على آخر فكلاهما صنيعة الآخر، يبقى ان نقول أن تساقط الأقنعة عن العريان وغيره يكشف عن الوجوه القبيحة لجماعة الإخوان المحظورة ويضعك أمام اختيار إما أن تدرك فى هذه اللحظة التاريخية الفارقة طبيعة هذه الجماعة غير السوية – هذا إن لم تكن قد توصلت إلى هذه الحقيقة من قبل – أو أنك تختار الاتجاه إلى مصالحة مع شخص سيسكتك رصاصه وأنت تدعوه لذلك.