الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الديكتاتور العادل




هذا المصطلح المتناقض، استنادا إلي أن كلمتيه لا تتفقان، لا العدل يكون قرين الديكتاتورية ولا الديكتاتورية تقود إلي عدل، ظل مثيرا للجدل بين المثقفين العرب.. لا هم يؤيدونه ولا هم يستبعدونه.. لكن حالة العراق الآنية، بعد سنوات من إعدام صدام حسين، تفرض إعادة «تمحيصه»، والنظرة المتجددة فيه.

المثقف الحقيقي بطبيعته لا يمكن أن يقبل بفكرة الديكتاتورية، ومن ثم فهو لا يمكن أن يسبغ عليها صفة العدل، لكن قطاعاً من المثقفين العرب لا يرفض الفكرة في عمق قناعاته تأثراً باثنين من كبار المفكرين العرب والمسلمين.. اللذين وضعا أصولاً تعريفية لهذا المصطلح وضرورته في مجتمعات الشرق.. إذ قال بها جمال الدين الأفغاني.. وقال الإمام محمد عبده «لا يحيا الشرق بدوله وإماراته إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلا قويا عادلا يحكم بأهله علي غير طريق التفرد بالقوة وبالسلطان».

ومن ثم فإن عملية النقد للفكرة بين المثقفين العرب غالبا ما تتراوح بين منهجين.. الأول يتبناه أولئك الذين يؤمنون بالديمقراطية.. وفق المفهوم الغربي الرافض لأي تصور لوجود الديكتاتورية.. والثاني يؤمن بنفس مفاهيم الديمقراطية لكنه يدرك طبيعة المجتمعات العربية.. كما أنه لا يمكنه أن يتجاوز التصور الفكري للأفغاني ومحمد عبده.. وفي ذات الوقت يتفهم أن التاريخ العربي مليء بنماذج من تلك التي يمكن أن ينطبق عليها المصطلح.

لن أثير جدلا هائلاً بأن أقول: إن بعضا من الخلفاء - وبمن في ذلك الراشدون - طبقوا أساليب تندرج تحت هذا المفهوم، لكن في المقابل تحتفظ المخيلة المصرية بإعجاب شديد لصانع الدولة المصرية الحديثة محمد علي باشا، وتدين له بتحولات علمية وجوهرية نقلت البلد إلي عصر آخر ولم يكن أبدا هذا الوالي المدهش بحاكم ديمقراطي.. بل إنه بدأ عصره بمذبحة للمماليك في قلب القلعة.

كما أن أحد النماذج الإسلامية المعاصرة الناجحة - الذي حقق نهضة كبري في ماليزيا - وأعني به مهاتير محمد، لم يكن من الممكن أن تنطبق عليه مواصفات الحاكم الديمقراطي بمقاييس الغرب، وهو نموذج متكامل للمصطلح المتناقض «الديكتاتور العادل»، علي الرغم مما حظي به من سمعة بين كل المسلمين والتجربة المزهرة التي حققها في هذا البلد.. حيث أجبر أغلبيته المسلمة علي اتباع القيم العصرية التي قادت إلي النهضة بمزيد من الحدة والشدة.

صدام حسين لم يكن عادلا علي أي وجه من الوجوه، وهو حاكم من خارج التاريخ، وإن صنعه، ولكن طبيعة العراق التي انكشفت للجميع منذ زمن، وصارت الآن شمسا واضحة، تعيد طرح هذا الأمر وتصوره.. حيث أثبتت الأيام والوقائع أن المجتمع من التعقيد بحيث إنه لا يمكن إلا أن يدار بشدة.. يجب ألا تكون ديكتاتورية.. وبقوة لا ينبغي أن تكون ظالمة.

الغرب ليس هو وحده الذي أنكر الديكتاتورية، ونحن العرب لسنا عبيدا بطبعنا لا يمكن أن يدير شئوننا إلا حاكم قاهر، وفي ثقافتنا قال عبدالرحمن الكواكبي عن «الديكتاتورية الشرقية»: «تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة»، وهو يصف الحكومة المستبدة بأنها: «الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين».

وقد كان صدام حسين مطابقا لوصف الكواكبي للاستبداد.. لكن حال العراق الذي أراد جورج بوش أن يحوله إلي بلد ديمقراطي نموذجي وفشل ثم رحل.. أثبت مجددا - وبما لا يدع مجالا للشك - أن الديمقراطية علي الطريقة الأمريكية لا تصلح للمجتمعات الشرقية المعقدة.. وأن لكل بلد مواصفاته.. بل إن الديمقراطية الأوروبية تختلف من دولة إلي أخري.. وتختلف برمتها عن الديمقراطية في الولايات المتحدة.

ما يمكننا أن نفهمه هو أن هناك قواعد أساسية لا يمكن التخلي عنها، لابد أن تتوافر في المجتمع العادل، أيا ما كانت ثقافته، هي تلك التي اصطلح علي تسميتها بالحكم الرشيد.. أي الذي تتوافر فيه معايير المحاسبة والشفافية والمساواة وحرية الرأي والمشاركة في اتخاذ القرار.. لكن المطالبة بهذه العناصر مجتمعة في كل الدول.. خصوصا تلك التي لم تبلغ قدراً ملائماً من النضج سوف تكون نوعاً من مناطحة الواقع.. والسعي إلي قهر الجبال.

وفي العراق، بحاله الآني، كيف يمكن أن تسأل عن محاسبة في بحر الدماء، أو عن حرية الرأي في حرب أهلية، أو عن مساواة بين أعراق متطاحنة بينها ضغينة تاريخية، في بلد يشهد أبلغ صور الطائفية وأفضحها.

ونكمل غداً.

الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net
البريد الإليكترونى: [email protected]