الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المستبد الرشيد




لم يطلق الإمام محمد عبده، وهو من هو، في الثقافة المصرية والعربية، وصفه للديكتاتور العادل بدون قيد أو شرط.. بل وضع له مواصفات خاصة.. إذ قال: (لا يحيا الشرق بدوله وإماراته إلا إذا أتاح الله لكل منهم رجلا قويا عادلا يحكم بأهله علي غير طريق التفرد بالقوة والسلطان).

أولاً: جعله الإمام الراحل (منحة ربانية)، أي لا ينتج عن طريقة طبيعية للوصول إلي الحكم، فهو يأتي إلي دول الشرق وإماراته ( إذا أتاح الله ذلك) وثانياً: هو (قوي عادل.. يحكم بأهله).. أي يشرك الناس علي قوته.. هذا شرط عدله.. وقد كرر محمد عبده - وتلك هي ثالثاً - نفس الشرط بطريقة أخري: (علي غير طريق التفرد بالقوة وبالسلطان).. أي لا يكون منفردا.. ويشرك من حوله.

هل هذه المواصفات ممكنة للعراق، باعتباره، بعد تلك التجربة المريرة التي انقضت عليها سبع سنوات.. وبعد أن شهد أكثر من انتخابات.. وجرب الديمقراطية علي الطريقة الأمريكية.. مازال يرزح تحت نير الفوضي.. لا يمكن أن تتشكل فيه حكومة.. ولا تستقر فيه سلطة.. ولا تقبض عليه قوة.. تتنازعه الفرقة.. ولا يمكن لفئة أن تترك لغيرها فرصة أن تنعم بالهدوء؟

في الإجابة عن السؤال نقول إنها غير ممكنة بنفس مواصفات محمد عبده، الله لم يمنح العراق هذا الحاكم بعد، لكن استمرار بقاء العراق بلدا واحدا.. ليس علي مشارف حرب أهلية طاحنة.. تجعل من هذا الحاكم ضرورة.. بل لا يمكن ضمان مستقبله إلا بذلك.

مرة ثانية لا يريد أحد (صدام جديدا).. فقد كان مستبدا.. لكنه كان أبعد ما يكون عن العدل.. بل إنه أيقونة للظلم والقهر.. وإن حمي تماسك الدولة وتوازنها الهش.. وعبر بها حربين كبيرتين.. وإن لم يصمد في الثالثة.. إلا أن العراق يحتاج إلي رئيس من قلب مجتمعه.. لا يجمع كل مواصفات الرشادة وصفات العدالة.. وإن كان لديه الكثير منها.. يكون مملوءا بوعي العراق.. وزاخرا بوجوب حمايته من نفسه.. وأيضا من الآخرين.. يسيطر علي الانهدار.. ويوقف الفوضي.. ولو بطش بعضا من الوقت.. ولو استبد فترة من الزمن.

وسوف يعارض البعض ما أقول هنا، إذ كيف أؤيد الاستبداد؟ والواقع إنني لا أؤيد الديكتاتورية، ولكن حين تقارن بين مستبد يضيق حرية التعبير وحاكم يقول إنه ديمقراطي بينما تجري بحور الدماء في الشوارع، فإن عليك أن تقبل الاستبداد لبعض الوقت.. وحين توازن بين مستبد يميل بعض الوقت علي فئة من السكان.. وبين ديمقراطي يدير حكومة هشة لا يمكن أن تسيطر علي الحدود.. فإنك لابد أن تنحاز إلي الديكتاتور المفترض فيه أن يكون عادلاً.

وحتي إذا كان هذا هو حل العراق، في ضوء اقتراب انسحاب القوات الأمريكية المحتلة، منذرة بمزيد من الكوارث بعد الفراغ الذي سوف تتركه، فإن هذا الديكتاتور العادل لا يمكن بلوغ الوصول إليه.. إلا إذا تجسدت المنحة الربانية.. ومن ثم فإن الحل البديل والمؤقت هو أن يعاد بناء الجيش العراقي الذي سرحته سلطات الاحتلال.. جيش يكون قادرا علي السيطرة.. وربما يكون ممكنا من خلال تفاعلاته أن يكشف عن قيادة تستطيع بطريقة ما أن تحقق بعض الفائدة لعراق ينهمر قطعة قطعة.

مواصفات الديمقراطية المدونة في الكتب لا تحمي أرواح البشر، قبل أن يكون لك صوت انتخابي حر لابد أن يكون لديك نفس تضمن أن يخرج من أنفك ويعود إلي صدرك، وقبل أن يمثلك عضو في البرلمان عبر قائمة نسبية أو بالانتخاب المباشر الفردي.. لابد أن تتأكد من أن أولادك مازالوا علي قيد الحياة في البيت.. وأنه يمكنك أن تعود إليهم في نهاية النهار. وتلك هي أهمية فكرة احتياج العراق لحاكم من هذا النوع الذي تحدث عنه جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده.

ويبدو أننا سوف نواصل غداً.
 
الموقع الالكتروني :  www.abkamal.net
البريد الالكتروني   :  [email protected]