الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

بطريرك الأقباط لسعد زغلول: الله يساعدك ويقويك وتنجح وتفوز!




طوال ستة شهور من عمل لجنة الدستور، وجلسات متتالية ومتوالية بدأت فى 13 أبريل سنة 1922 وانتهت فى 3 أكتوبر من نفس العام، لم تستطع أن تتجاهل ذلك الرفض المصرى الشعبى - مسلمون وأقباط - لفكرة تمثيل الأقليات.
تابعت اللجنة كل المناقشات والجدل الذى كان يدور على صفحات الصحف بين أغلبية كاسحة رافضة، وأقلية مؤيدة.
المسلمون قبل الأقباط رفضوا منطق الانجليز القائل بحماية الأقليات فالأقباط رفضوا تماماً مقولة إنهم أقلية، وقد أثبتت ثورة 1919 صحة هذه المقولة، وأيضا من قبلها الثورة العرابية (سبتمبر 1881) عندما قال «عبد الله النديم» خطيب الثورة العرابية.
إن الحرب بين مصريين وغزاة انجليز وليست بين مسلمين ومسيحيين».
ولم ينس الناس للقمص «سرجيوس» كلمته الشهيرة من فوق منبر الأزهر الشريف عندما قال:
«إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم فى مصر بحجة حماية القبط، فأقول ليمت القبط ليحيا المسلمون أحراراً».
إن «سعد زغلول» عقب عودته من باريس إلى الإسكندرية فى الرابع من أبريل سنة 1921 استقبلته مصر استقبالا يفوق الوصف، كما يقول د. محمد حسين هيكل باشا ولم يكن من المناصرين لسعد بل ان أحد المؤيدين لعدلى يكن باشا.
كتب «هيكل» باشا: كان استقبال «سعد» فى ذلك اليوم منقطع النظير، فما أحسب فاتحا من الفاتحين، ولا ملكا من الملوك حظى بأعظم منه فى أوج مجده».
وألقى «سعد» كلمة بليغة أمام تلك الآلاف كان أبرز ما فيها قوله: أشكر العلماء والقسس الذين أبطلوا باتحدهم فرية كانوا يتخذونها حجة، ففشلوا وأن رجال الدين في الوطن سواء».
وفى اليوم التالى وصل القطار الذى يستقله إلى محطة القاهرة وحسب شهادة «فخرى» بك عبد النور» الذى كان «سعد زغلول» يسميه «الوطنى الغيور» و«قاموس الوفد»، وقد وصف استقبال سعد بقوله «إن أى بيان وأى وصف وأى تعبير مهما تسمو به الفصاحة، وترتفع به البلاغة ورصانة الأسلوب لهو دون الحقيقة بألف مرحلة ومرحلة. فقد خلدت القاهرة هذا اليوم العظيم - يوم 5 أبريل سنة 1921- وكتبته بتاريخ من نور، بل لقد دفعت اللصوص والنشالين إلى أن يكفوا عن جرائمهم فى هذا اليوم إجلالا للقادم العظيم، فلم تقع فى القاهرة طوال اليوم حادثة سرقة واحدة ولم يسجل فى دفاتر البوليس محضر لأى حادث جنائى».
وكان أول ما فعله «سعد زغلول» فى اليوم التالى هو زيارته لمقابر الشهداء فى الأمام الشافعى وألقى كلمة، ثم زار قبر أحد الشهداء الأقباط فى دير الأنبا رويس بالعباسية وألقى كلمة بليغة مؤثرة.
وفى يوم السابع من أبريل - وحسب شهادة «فخرى عبد النور» فقد زار الأنبا كيرلس الخامس بطريرك الأقباط وكان يعتقد فيه الصلاح والتقوى، وكم كان المنظر مؤثراً حين عانقه البطريرك وقال له:
أنت تعبت كثيراً.
فقال «سعد باشا»: سينسى هذا التعب بنجاح قضيتنا وأطلب منك الدعاء!
فرد البطريرك قائلا: الله يساعدك ويقويك؟
فشكر له سعد باشا بقوله: إن شاء الله ببركتك.
فقال البطريرك: ببركة الله تنجح وتفوز.
وغادر سعد زغلول باشا البطريركية مودعاً من البطريرك ومن رجال الدار أحسن وداع وكانت الجماهير قد اصطفت فى الشوارع المحيطة بالدار فى انتظاره فلما خرج حيته بالتصفيق وتعالت اصواتها بالهتاف.
خاب ظن الانجليز فى أقباط مصر منذ اللحظة التى انضموا فيها إلى حركة التوكيلات التى اعطت لسعد زغلول ورفاقه الستة حق السعى بالطرق السلمية المشروعة لنيل الاستقلال.
فى ذلك الوقت كان كبار الأقباط قد اعتادوا الجلوس فى نادى رمسيس، وقد لاحظ الحاضرون من أعيان الأقباط ومثقفيهم ومفكريهم أن الأسماء التى ذكرت بعرائض التوكيلات ليس بينهم اسم احد من الأقباط ورأوا أن هذا لا ينبغى أن يكون وأنه لابد من استكمال هذا النقص، وتقرر انتداب ثلاثة من الحاضرين للذهاب إلى سعد باشا وعرض الموضوع من أعيان الأقصر، وفخرى عبد النور الذى يقول فى مذكراته.
رحب بنا سعد باشا ترحيبا كبيرا وأعرب عن اغتباطه بالفكرة التى حضرنا من أجلها، ثم دار الحديث حول اختيار عضو أو أكثر من الأقباط فى الوفد.
وأذكر فى هذا الحديث أن تحمس الأستاذ «توفيق أندراوس» وكان «سعد باشا» يشرح لنا أهداف الوفد فقال معقباً على كلمة سعد باشا:
أن الوطنية ليست حكراً على المسلمين وحدهم!
فُسر سعد باشا وقبله على هذه الكلمة وعاد الأستاذ توفيق فأكد أن العنصرين اللذين تتألف منهما الأمة - المسلمين والأقباط - يعملان بتفكير واحد، ورأى واحد فيما يحقق مصلحتهما فى الحصول على الاستقلال.
وهكذا انضم إلى لجنة توكيلات الوفد كل من «سينوت حنا» و«جورج خياط».
ويضيف «فخرى عبد النور» قائلا: ومما يُسجل بأحرف من نور فى تاريخ الحركة الوطنية إنه لما طُلب إلى «جورج خياط» بك أن يحلف اليمين فى هذه الجلسة سأل سعد باشا قبل أن يقسم: ما هو مركز الأقباط وما هو مصيرهم بعد انضمام ممثليهم إلى الوفد؟!
فاجاب «سعد باشا»: بأنه يسره أن يسمع هذا السؤال ثم قال لجورج بك: اطمئن إن للاقباط ما لنا من الحقوق، وعليهم ما علينا من الواجبات على قدم المساواة.
ولما خرجنا من حضرة سعد باشا أخذنا معنا نسخا من التوكيلات وقصدنا إلى نادى رمسيس فانهالت التوقيعات عليها من جميع الوافدين على النادى».
وبعد أيام يكتب «سعد رغلول» خطابا بتاريخ 24 نوفمبر سنة 1918 إلى حضرة صاحب العزة «جورج بك خياط» العضو بالوفد المصرى يقول فيه:
إنه بمناسبة انضمام الاعضاء الجدد إلى الوفد قد أدليت التصريح الآتى: أبدى تشكراتى لحضرات الأعضاء المنضمين وخصوصاً حضرات جورجى بك خياط وسنوت حنا بك لأن رغبتهما فى الانضمام إلينا كشفت عن شعورهما بشرف غايتنا ونبل قصدنا وإننا نريد أن نعمل يدا واحدة لخير الأمة المصرية لا فرق بين العناصر التى تتألف منها ولا يفتنا أن نُحيى هذا الشعور إلا بالاحترام والاجلال لأنه مطابق لحقيقة قصدنا، موافق عما انعقدت عليه نياتنا فى أننا لا نفرق بين أقلية وأكثرية بل الكل فى اعتبارنا أمة واحدة يتساوى افرادها فى الحقوق والواجبات المدنية والسياسية ولا يتفاضلون إلا بالكفاءات الشخصية وإلا لا يكون فى الاستقلال التام إلا تأكيد هذا المعنى وظهوره فى أجمل صورة فوافق الجميع على ذلك التصريح، ونظراً إلى إنكم لم تحضروا هذه الجلسة اثرت أن أبلغكم ذلك وتفضلوا بقبول تحياتى».
ولم يكن ما فعله سعد زغلول على سبيل المواءمة والمجاملة بل كان قناعة وطنية بامتياز.
وصباح يوم الجمعة الموافق 19 مايو سنة 1922 شهدت الكنيسة البطرسية واحدا من أخطر وأهم الاجتماعات ولم تناقش سوى موضوع واحد فقط كان يشغل الأقباط والمسلمين وهو مسألة تمثيل الأقليات فى البرلمان!
الاجتماع كما يقول المؤرخ أحمد شفيق باشا دعا إليه نخبة من أفاضل الأقباط إخوانهم من جميع أرجاء البلاد ومن جميع الطبقات فلبى الدعوة جمهور عظيم من الأعيان والوجهاء والأطباء والمحامين والموظفين والمهندسين والمعلمين وممثلى الهيئات النيابية والتجار والطلبة والعمال ولما اكتمل عقد الاجتماع خطب الخطباء من الأقباط والمسلمين.
امتلأت الكنيسة بنحو خمسمائة ملأوا المقاعد وطرقات الكنيسة وبدأ الاجتماع بالهتاف لسعد زغلول والزعماء المنفيين ولسلامة ميخائيل عضو لجنة الوفد وأحد كبار المحامين ووليم مكرم عبيد.
وفى كلمته هاجم سلامة ميخائيل بدعة التمثيل الطائفى وضررها الشديد على الوطن وضرب مثلا بالمحامى القبطى مرقس حنا الذى تم انتخابه نقيبا للمحامين ثلاث مرات متتالية وقال أيضا فى كلمته:
أن الحركة الوطنية التى أعجب بها العالم واقتفى فيها أثرنا الغربيون والشرقيون لم تكن بدعة ولا لعبا ولا لهوا إن الدماء الزكية التى سفكت سواء من الأقباط أو من إخوانهم لم تكن مزاحا ولا هزلا فمقترحوا تمثيل الأقليات يريدون أن يضيعوا عليكم كل هذه المجهودات يقصدون أن يقولوا أن الأقلية مخدوعة وجزء منفصل يجب أن يكون له من يدافع عنه وأن يقولوا للأغلبية إننا نراكم متعصبين فنخشاكم.
وأضاف: احتمال مستحيل الوقوع أن لا ينتخب قبطى والمصريون كلهم لا ينظرون لغير الكفاءة والنزاهة والتضحيات ونصيبكم فى هذه التضحيات كان موجبا للفخر.
أنتم ممثلون تمثيلا فعليا فى الوفد المصرى والأغلبية لكم فيه يريدون أن يضيعوا عليكم هنا التمثيل المبنى على شعور وأن يستبدلوا به تمثيلا غير قانوني.
وتحدث فى الكاتدرائية أيضا الشيخ مصطفى القاياتى وقال:
إذا كان الاستقلال سيؤدى إلى فصم الاتحاد فلعنة الله على هذا الاستقلال وأكد على أن التفرقة الطائفية أكثر خطراً من الاحتلال ذاته.
وتوالت الكلمات بعد ذلك وفهم أنطون جرجس أنطون و«ويصا واصف» وصدر فى نهاية الاجتماع بيان مهم تم إرساله إلى جميع الصحف المصرية ونشرته الصحف تحت عنوان إخواننا الأقباط يعارضون فى تمثيل الأقليات وجاء فيه: الاقباط المجتمعون اليوم بالكنيسة البطرسية من أعيان ومحامين وأطباء ومهندسين وموظفين وتجار ومعلمين وطلبة وممثلى الهيئات المحلية والعمال يقررون بالاجماع أن طلب تمثيل الأقليات الدينية فى المجالس النيابية بدعة ضارة سواء بتلك الأقليات أو بالمجموع المصرى وموجبة لتمزيق الوحدة الوطنية التى يجب أن تظل قائمة وألا تشوبها شائبة ليبلغ المصريون أجمعون المطمح الأسمى الذى توحدت جهودهم منذ أن قامت الحركة الوطنية لبلوغه.
ويعلنون أنه ليس لهم أى مصلحة خاصة تمتاز عن مصلحة المجموع المصرى وأن لا علاقة بين المعتقدات الدينية والمذهبية وبين مصلحة الوطن العامة ويدعون الأمة بأغلبيتها وأقلياتها الدينية أن تنبذ هذه البدعة نبذا تاما وأن تكف عن الاشتغال بهذه المسألة التى لا يستفيد منها إلا أعداء الوطن وهم ينتهزون فرصة اجتماعهم هذه ليرسلوا تحياتهم القلبية لزغلول ورفاقه الأمناء فى مقامهم ويطالبون بعودتهم وبفك اعتقال جميع المعتقلين والمبعدين السياسيين وبرفع الأحكام العرفية ويعلنون تمسكهم التام بالسودان وإنه جزء لا يتجزأ من البلاد المصرية.
وللأسف الشديد فإن توفيق دوس عاد فى جلسات لجنة الثلاثين ليقول قامت ضجة كبرى من تلك الجماعة التى تسمى نفسها الوفد المصرى تنادى بعدم التمثيل وتشكك فى نوايا القائل به، وقال أيضا بدأت حملة فى الجرائد غالبها من الأقباط ضد القائل بوجوب التمثيل.
لقد كان تيار المعارضة لفكرة تمثيل الأقليات كاسحا وساحقا وحسب شهادة المؤرخ أحمد شفيق باشا قوله: وبالجملة فإن تيار الرأى العام من الأقباط كان شديدا فى معارضته لفكرة تمثيل الأقليات الدينية فى البرلمان وكان من نتائج تلك المعارضة أن نزلت لجنة وضع مبادئ الدستور على رأى الأكثرية فلم تنص عن تمثيل الأقليات بل اعتبرت الجميع مصريين وأن الدستور يحمى الجميع على السواء.
ويوضح د.محمد حسين هيكل باشا كواليس ما جرى بقوله:
كان لهذه الحجج ولمثلها مما تقدم به المحامى البارع توفيق دوس بعض الصدى لكنها لم تجد فى اللجنة مؤيدا بل كانت الفكرة السائدة أن دستورا ينص على حرية الاعتقاد وحرية الرأى وعلى المساواة بين المصريين جميعا يهدم مبادئه الأساسية أى نص على تمثيل الاقليات كما يجعل هذه الأقليات منظورا إليها على أنها غير مندمجة فى الأمة الاندماج التام الذى يجعل من هذه الأمة وحدة متماسكة الكيان يتمتع كل فرد من أفرادها وكل جماعة فيها بحقوق متساوية مساواة التكاليف التى تقع أعباؤها على عواتقهم جميعا.
أما اسقاط حجة الإنجليز فليس السبيل إليها هذا النص على تمثيل الأقليات بل هو ما بدأ منذ قامت الحركة الوطنية فى سنة 1919 من تضامن عناصر الأمة جميعا بغير تمييز بين الأديان أو الأجناس هذا إلى إنه لم ينص دستور من الدساتير المدونة فى الأمم المتحضرة على تمثيل الأقليات ليتخذ حجة لأصحاب هذا الرأى، لهذا رأت لجنة الثلاثين رفضه ولم تقف طويلا عنده.
ويضيف هيكل باشا قائلا وموضحا على أن عبدالعزيز فهمى بك خشى أن يكون للفكرة التى أوردها توفيق بك دوس أثر فى المستقبل وحرص على أن يحتاط لهذا الأمر وعبدالعزيز محام عرف بشدة الحرص والاحتياط لهذا رجع إلى المعاهدات الأخيرة التى عقدت مع بعض البلاد التى توجد بها أقليات دينية أو جنسية وخاصة المعاهدات التى عقدت مع بولونيا فجاء بالنصوص التى وردت فى هذه المعاهدة خاصة بتساوى الأقليات الدينية والجنسية مع كثرة أهل البلاد وطلب إدماجها فى المبادئ العامة لكى توضع فى أحكام الدستور، وكان لهذا الاحتياط من غير شك قيمته وأقرته لجنة الثلاثين بإجماع الآراء.
ويكمل ملامح الصورة المستشار طارق البشرى قائلا: انتهت مشكلة تمثل الأقليات برفضها الجماهيرى الواسع على نطاق المصريين عامة والقبط خاصة وجاءت اللجنة العامة للدستور ورفضتها بالأغلبية فى أغسطس سنة 1922 وكان غير صحيح ما قييل عن الجدل الذى ثار بشأنها إذ لم يتحقق فى هذا الجدل ما كان يخشى منه من أن يقود إلى محنة وتتغلب العواطف ويهيج الأليم من الذكريات، إن حكمة الشعب المصرى تأبى أن تفارقه وتأثير التطور الفكرى الحديث لا يزال ساريا بدرجة تدفع الرجعيين للتقدم إلى صفوف الحديثيين ومناهج العصريين.
للدراسة بقية